النجاح الإخباري - "محبة محبة يا بلدنا، فوق الريح نعليها، أحلى بلاد نخليها".. أغنية يكررها أطفال بأعلى أصواتهم وهم يصفقون بأيديهم وتعلو الابتسامة وجوههم المرهقة من القصف والرعب والنزوح والجوع المرافق لهم منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر تشرين الأول.

يشكل الصغار دائرة كبيرة يتوسطها ناشطون يرتدون قمصانا عليها شارة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وبجانبهم مكبر صوت صغير بالكاد يسمع الحضور بعض أغاني الأطفال عند تشغيله، في حين تتوسع الدائرة شيئا فشيئا مع وصول أعداد إضافية من خيام النازحين في مواصي خان يونس بجنوب قطاع غزة.

يزداد تصفيق الأطفال وتفاعلهم مع كل أغنية أو أنشودة أقرب إلى طفولتهم كانوا يحفظونها قبل الحرب ليكرروا كلماتها ونغماتها الموسيقية بانفعال يتملك ألسنتهم وأجسادهم وهم يتمايلون يمنة ويسرى، في حين يطرب بعضهم ويطيل أمد الكلمات والعبارات على طريقة الموال وسط ضحكات المحيطين به.

يأتي الناشطون ببعض حركات اليد والجسد ارتفاعا وانخفاضا وبطئا وسرعة، فيقلدهم الأطفال تباعا، ومع كل حركة ينشدون بعض أغانيهم التي يعبرون عنها بالحركات والتنقلات والتصفيقات وحتى الضحكات ليتحول المشهد وكأنهم يطبقون نوتة موسيقية باحتراف منقطع النظير.

يتحرك المشتركون بالدائرة وراء بعضهم هرولة وتوقفا مع توجيهات الناشط الرئيسي الذي يتوسطهم، لينجح بعضهم في الالتزام بالحركة والتوقف ويتعثر بعضهم، فتتعالى ضحكات الأطفال وذويهم ويواصلون اللعب، انتقالا إلى نشاط جديد من التفريغ النفسي والانفعالي للصغار.

يعلو صوت ناشط آخر وهو يسألهم أسئلة عدة، ويجيبون بنعم صحيح، مثل "أطفال غزة بيحبوا السلام والحياة، وأطفال غزة بدهم يعيشون بأمان، حق أطفال غزة وقف الحرب، بدنا البسمة للأطفال، وبسمة تدوم وعيشة كريمة ولقمة حلال"، وغيرها من سيل التساؤلات التي تعبر عن رغبة الصغار في وضع نهاية للحرب التي حصدت أرواح آلاف الأطفال.

* أوضاع نفسية متدهورة
 
تنظم مؤسسات دولية ومحلية فعاليات ترفيهية للأطفال في مخيمات النزوح بجنوب قطاع غزة من خلال تنفيذ بعض الألعاب والأنشطة وفعاليات الغناء والدبكة الشعبية وتوزيع الهدايا وغيرها في محاولة للتخفيف من الأوضاع النفسية المتدهورة للأطفال الذين يكابدون مرارة النزوح ويعيشون أوضاعا صعبة.

ويتواصل تفاعل الأطفال الذين لم يكلوا ولم يملوا من اللعب والتصفيق والغناء والتنقل رغم صيام بعضهم، في مشهد يعكس شوقهم لأي نشاط ترفيهي يكسر قيود الحرب التي كبلتهم بالأحزان وانعكست على أوضاعهم النفسية التي تزداد سوءا مع تكرار مرات النزوح وتصاعد حدة القصف حتى في أماكن النزوح المصنفة وفق الجيش الإسرائيلي بالآمنة.

الطفلة ليدا الغزالي، التي نزحت مع عائلتها خمس مرات من مدينة غزة وصولا لمواصي خان يونس جنوب القطاع، لم تكن على القدر ذاته من التفاعل أسوة بنظرائها المحيطين بها وظلت تصفق بهدوء وتنشد بصوت منخفض بعض الأناشيد التي يكررها أقرانها بصوت مرتفع.

تختلط ملامح الخوف بالفرح على وجه الطفلة ذات الأعوام العشرة وهي تشارك بالفعالية الترفيهية وتندفع ببطء شديد للتفاعل مع بعض الأغاني التي اعتادت على تكرارها مع صديقاتها بالمدرسة والحي، لكن سماعها من خلال مكبر الصوت بعد كل هذه الأشهر أعاد إلى ذاكرتها الأيام الجميلة التي كانت تقضيها قبل الحرب.

تنعكس شمس الصباح على وجه ليدا الأشقر وعينيها الخضراوين وهي تحاول التململ من مكانها قليلا والانسجام التدريجي مع المحيطين علها تفلح في الفكاك ولو قليلا من ذاكرتها المثخنة بالرعب المسيطر عليها منذ نجت مع عائلاتها أكثر من مرة من قصف إسرائيلي قريب.

تتحدث ليدا عن صعوبة البدء من جديد في الإحساس بالفرح بعد كل هذه الأشهر التي قضتها تتنقل من مكان إلى آخر وسط أجواء من الرعب والخوف الذي يصيبها جراء القصف والتدمير الذي كان يلاحق عائلتها في كل مكان.

وتقول ليدا "نموت من الخوف يوميا والقذائف تسقط حول خيامنا ونعيش حياة مكتظة بالفقد والحرمان من كل الأشياء التي نحبها. لا أستطيع الانتقال فجأة من هذه الحالة إلى اللعب مجددا رغم اشتياقي لذلك".

وعلى مقربة، يقف الآباء والأمهات وهم يتابعون بارتياح كبير تفاعل صغارهم مع الأنشطة المتتالية للبرنامج الترفيهي، فيصورونهم بهواتفهم المحمولة ويشجعونهم على الاندماج بصورة كبرى، تارة بالتصفيق لهم وعلو ابتساماتهم وأخرى بالإشارة إليهم بإصبع الإبهام والتلويح بالأيدي.

تلوح غادة الهسي (40 عاما) بيدها اليمنى وترسل بالأخرى قبلات من فمها لطفليها قصي (ستة أعوام) وورد التي تصغره بعامين، وهي تقابلهما على الجانب الآخر من الدائرة الكبرى قبل أن تلتف حولهما وتتوسطهما وهما يعلوان بصوتهما لتكرار الأغاني التي يسمعانها.

يسيطر التفاعل والتأثر بأجواء البهجة المحيطة على الطفلين مثلما تبدو ملامح الارتياح على أمهما التي رزقت ببكرها بعد حرمان دام 11 عاما، ونجت بهما في خمس مرات نزوح ثلاث منها تحت القصف.

تؤكد الأم أنها بالكاد تصدق قدرة ابنيها على الانسجام مع هذه الفعالية الترفيهية، كونهما يشعران بالرعب من أي صوت مرتفع بعدما عاشا أياما قاسية من القصف ودوي الانفجارات المرعب، مشيرة إلى أن أطفال غزة بحاجة إلى برامج دائمة للترفيه وليس مجرد ساعات على فترات متباعدة لأنهم يعيشون أوضاعا من الرعب والحرمان لا يحتملها الكبار، على حد قولها.