النجاح الإخباري - غزة: بالكاد يستطيع محمود أبو تركي (32 عاما) أن يلتقط أنفاسه وهو يسكب خليط القطايف من قمع بلاستيكي على الفرن الملتهب؛ فهو في حركة دائبة بين الجالون الذي يحوي الخلطة وبين الفرن القريب، يصارع الوقت.. فالقطايف سريعة الاستواء.

يواصل صانع القطايف عمله بالوتيرة ذاتها لنحو خمس ساعات يوميا، لا يقطعها سوى انتظار بعض الوقت لملء جالون الخليط بكميات إضافية قبل أن ينطلق إلى فرنه من جديد ليُعد مزيدا من القطايف بثلاثة أحجام: صغيرة تسمى بالعصافير، ومتوسطة، وكبيرة.

لم يكن أبو تركي، النازح من وسط خان يونس، يتخيل قبل ثلاثة أشهر ونصف الشهر، أن يأتي عليه رمضان وهو في حالة نزوح؛ فقد ترك معدات مخبزه وأدوات صناعة المعجنات والقطايف كلها داخل منزله ومحله بمركز المدينة، إلى أن أتيحت فرصة انسحاب مؤقت للجيش الإسرائيلي من المنطقة فتسلل وجَلَب بعض ما تبقى من أدواته بعد تدمير معظمها.

استكمل الشاب، الذي يعمل في إعداد القطايف منذ أكثر من عشرة أعوام، جميع تجهيزاته مع اليوم الأول لشهر رمضان، ونَصَب عريشته على الطريق الساحلي بمواصي خان يونس، وزيَّن أجزاء منها بالقماش المزركش المسمى محليا بالمصري الذي اعتاد على استخدامه في كل موسم.

أما مكونات خلطة القطايف ذاتها وحشوتها من سميد ودقيق وسكر وزيت وجوز هند ومكسرات ونحوها، فهو يجتهد في توفير ما يستطيع منها من السوق المحلية رغم تضاعف أسعارها مرات ومرات، حتى يتمكن من توفير كميات كافية تلبية لطلبات الزبائن الذين يتكدسون قبالة عريشته ويضطرون للانتظار لنصف الساعة على الأقل قبل الحصول على طلباتهم.

يقول الشاب إنه لم يكن مقبولا لديه أن يمر شهر رمضان دون أن يعمل في إعداد القطايف حتى رغم ظروف النزوح القاسية وصعوبات البحث عن الاحتياجات وتوفيرها وانقطاع الكهرباء وفقدان معظم المستلزمات الأساسية التقليدية ومحاولة إيجاد البدائل المتوفرة بمناطق النزوح.

* تضاعف الأسعار 

رغم سعادة أبو تركي بإقبال النازحين على شراء القطايف بشكل كبير كالمعتاد في شهر رمضان، وبأن معظم زبائنه الذين اعتادوا الشراء منه قبل النزوح بحثوا عن عنوانه وجاؤوه من مناطق بعيدة، فهو يشعر بالضيق والحزن لارتفاع أسعار القطايف ومستلزماتها بشكل يفوق قدرات أغلب الزبائن.

ويقول إن هذا الارتفاع كان نتيجة مباشرة لتضاعف أسعار المواد الخام عدة مرات، فمثلا كان سعر الكيلوغرام من السكر ومثله جوز الهند أربعة شواقل (نحو دولار واحد)، أما الآن فالسعر نحو 70 شيقلا (19 دولارا)، وسعر الفستق بات يتجاوز 60 شيقلا بينما لم يكن ليزيد من قبل على عشرة شواقل. وتضاعف سعر أسطوانة الغاز من 75 شيقلا إلى 150 بالسوق السوداء.

ويباع الكيلوغرام من القطايف بسعر 25 شيقلا وحشوته بذات السعر، في حين كان سعر الكيلوغرام خمسة شواقل قبل الحرب؛ وذلك دون القلي والماء المُحلى أو العسل اللازم لتحليتها، ومن ثم يتجاوز سعر الكيلوغرام الجاهز للأكل 60 شيقلا في حين كان لا يزيد على 15 شيقلا في الأوضاع الاعتيادية.

ويؤكد أبو تركي أن فكرة استئناف عمله في ظل أوضاع النزوح والحرب المخيفة تنبع من رغبته في مساعدة النازحين بتوفير جزء من مظاهر رمضان، وفي دعمهم حياتهم ولو بأشياء بسيطة ومنحهم أملا بإمكانية العودة للحياة السابقة.

وبينما يعتبر الشاب أن عمله فرصة مواتية كذلك لإيجاد أبواب رزق لخمسة أشخاص آخرين يعلمون معه يوميا بما يُمكّنهم من مساعدة عائلاتهم في توفير جزء من متطلبات الحياة، يؤكد أن ارتفاع الأسعار يكاد يُفقده هامش الربح المأمول، لكنه لا ينوي رغم ذلك التوقف عن العمل طيلة شهر رمضان وسيفكر جديا في مواصلة العمل بعده.

* البسمة

بابتسامة يستقبل الشاب زبائنه الذين يقفون قبالة عريشته يتلهفون لشراء القطايف بعدما فوجئوا بوجودها في منطقة معزولة كمواصي خان يونس، حتى أن بعضهم يطل برأسه ليتأكد أنه يبيعها وليس سلعة أخرى.

ويعبّر الحاج أبو حسام (62 عاما) عن سعادته لبيع القطايف في هذا المكان الذي يكتظ بالنازحين من كل أرجاء قطاع غزة، ليس لرغبته في تناولها فحسب ولكن لكونها مظهرا رمضانيا يُذكّرهم بالحياة "وسط هذا الكم الهائل من الموت". 

يقول أبو حسام إنه فوجئ بوجود مكان لبيع القطايف، خاصة أن معظم مظاهر الحياة الطبيعية اختفت مع تعمق الحرب والنزوح بشكل يحول دون الحصول على أي من متطلبات الحياة التي اعتادوا عليها.

يُثني الرجل النازح منذ أربعة أشهر من مدينة غزة على كل المحاولات الجادة لمساعدة الناس وتوفير متطلبات حياتهم، خصوصا خلال شهر رمضان لخصوصيته، فضلا عن إيجاد أي بصيص أمل يساعدهم على التأقلم مع ظروفهم القاسية.

يقول "كم كانت سعادة زوجتي وأبنائي الستة وأحفادي الثلاثة بتناول القطايف حتى أنهم طالبوني بشرائها يوميا، خصوصا في ظل عدم وجود أي صنف من الحلويات التي كنا نتناولها بعد الإفطار خلال السنوات السابقة".

ويضيف "لم نشاهد أي شيء يبعث على الحياة منذ نزوحنا حتى جاء بائع القطايف وذكَّرنا بما كنا نعيشه كل رمضان قبل هذه الحرب المدمرة".

لكن رغم حديث أبو حسام عن أهمية استعادة مظاهر الحياة حتى لو في خيام أو أماكن النزوح "لإفشال مخططات إسرائيل ببث الإحباط واليأس بين الفلسطينيين"، يُعبر عن حزنه لعدم قدرة غالبية النازحين على شراء القطايف وسلع أخرى تعودوا على توفيرها لعائلاتهم في رمضان.

وبينما تشهد خيام وعُرُش إعداد وبيع القطايف ومستلزماتها إقبالا كبيرا بأماكن وجودها المنتشرة في جنوب قطاع غزة بمواصي خان يونس ورفح فضلا عن دير البلح بوسط القطاع، يُعد كثيرون فكرة وجودها تتجاوز مجرد اشتهاء تناول القطايف إلى قدرة الفلسطينيين على التأقلم سريعا مع ظروفهم المستجدة مهما كانت صعوبتها.