النجاح الإخباري -  يتنقّل الفلسطيني سليمان جبر من الساعات الأولى للصباح بين أسواق مدينة رفح، سعيا لشراء بعض المواد الغذائيّة بأسعار معقولة، ليعود إلى عائلته بالقليل من الطعام.

لا يتوقّف جبر (46 عاما)، النازح من شمال القطاع إلى رفح أقصى الجنوب قبل أكثر من ثلاثة أشهر، عن سؤال بعض باعة الأكشاك أو البسطات عن الأسعار، التي يجدها كالعادة في منحنى تصاعدي مستمر وبشكل غير مسبوق.

يواصل سليمان رحلة البحث عن مبتغاه بأسعار تُناسِب قدراته الماليّة المحدودة، لكن دون جدوى، فيضطّر إلى الاستغناء عن غالبيّة مستلزماته الأساسيّة التي تحتاجها أسرته المكوّنة من تسعة أفراد، أصغرهم طفلة في الرابعة من عمرها.

بيد أنّ الخضراوات والمواد الغذائيّة التي قرر شراء قدر قليل منها، أسعارها وصلت إلى حدّ لا يُطيقه، ما دفعه إلى شراء أقل القليل، حيث يشتري كيلوغراما واحدا من البندورة والباذنجان والخيار ونحو ذلك، في حين يُقلّص أعداد معلّبات الفول والحمّص إلى اثنتين من كل واحدة مع قنّينة زيت طعام سعة كيلوغرام واحد مع الاستغناء عن الاحتياجات الأخرى.

سليمان، المتعطّل عن العمل منذ نزوحه، أوضح أنه لا يملك دخلا ماديّا أسوة بمعظم النازحين يُمكّنه من الشراء بهذه الأسعار التي وصفها بالجنونيّة؛ وقال في حديث لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) إن من لديهم دخل مناسب حتى، نفدت أموالهم خلال شهور الحرب الخمسة.

وقال إن الأسعار في السوق "تتجاوز حدود العقل والمنطق ولم يكن يتوقع أحدٌ وصولها إلى هذا الارتفاع الذي ليس له مسوّغ مطلقا، سوى الاحتكار وسرقة جيوب الغلابة".

ووفقا لقوله، فإن أقل الارتفاعات تمثلت في تضاعف أسعار السلع خمس مرّات، وبعضها عشر مرّات وأكثر من ذلك لبعض الأصناف، مع أنها تصل لتجّار القطاع بأسعار عاديّة من الخارج عبر المعابر، بحسب وصفه.

ويرى سليمان أن بعض الارتفاعات المحدودة التي كانت في بداية النزوح يمكن تفهّمها نتيجة لزيادة الطلب جرّاء الازدحام الشديد، بينما لا يستطيع تقبّل الارتفاعات التي تلتها.

وقال: "في البداية، كنّا نجوع لعدم توفّر السلع؛ والآن، يجوع أطفالنا من الغلاء الفاحش، مع أنّ المواد متوفّرة إلى حد ما في الأسواق ولا نجد أحدا يُخبرنا لماذا يحصل كل هذا مع إدخال مساعدات وبضائع للتجّار".

أضاف "سعر الدجاجة المجمّدة المستوردة في نقطة البيع محدّدة بخمسة وثلاثين شيقلا (حوالي 9.84 دولار أميركي)؛ لكنّا نجدها خارجها بسبعين؛ الباعة يتآمرون علينا لبيع ما لديهم في السوق السوداء بأضعاف مضاعفة".

وتحدّد وزارة الاقتصاد نقاط بيع رئيسة في مناطق رفح ومواصي خان يونس ودير البلح، ليتمكّن النازحون من شراء بعض الأصناف منها بأسعار مرتفعة قليلا قياسا بما قبل الحرب، لكنها مقبولة ويتهافت عليها النازحون الذين يُفاجأون بنفاد الكميّات داخل النقاط ويجدوها في الأسواق بأضعاف سعرها المعلن.

* غضب على منصّات التواصل

وإلى جانب التعبير عن حالة الغضب من ارتفاع الأسعار بالتجمعات والاحتجاجات النادرة عبر إشعال إطارات مطاطيّة في رفح، تغصّ منصّات التواصل الاجتماعي بالحديث عن التفاف الباعة وبيع ما يصلهم بأضعاف أسعاره المقرّرة من قبل وزارة الاقتصاد.

فضلا عن ذلك، يتحدث البعض باستمرار عن ما يسمّونها بمحاباة ومحسوبيّة في توزيع المساعدات المخصصة للنازحين.

وفي الوقت الذي تتعالى فيه احتجاجات النازحين على ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق وحرمان غالبيّتهم من الاحتياجات الأساسية لعائلاتهم نتيجة لذلك، تتزايد المطالبات باتّخاذ الجهات المحليّة إجراءاتٍ صارمةً لوضع حد لهذا الغلاء وتحديد آليات تجبر الباعة والتجار على الالتزام بها.

وتصف هدية بهاء الدين (54 عاما)، النازحة في مواصي خان يونس، غلاء أسعار السلع بأنّه "حرب أخرى لا تقلّ عن الحرب الإسرائيلية".

وقالت في حوار أجرته معها وكالة أنباء العالم العربي "القصف والرصاص يقتل أبناءنا، وغلاء الأسعار يقتلهم بالتجويع والحرمان"، مبدية استغرابها الشديد من العجز عن مواجهة الظاهرة والاستسلام أمام جشع التجار الذين يورّدون هذه المواد بأثمان اعتيادية من الخارج ويبيعونها بأسعار فلكيّة فوق تقديرها.

وتساءلت الأم لسبعة أبناء وحفيدين "أيعقل وصول ثمن الكيلوغرام الواحد من اللحم المجمّد إلى 100 شيقل والدجاجة الواحدة إلى 70 شيقلا وزيت القلي إلى 25 شيقلا للتر الواحد وكيلو السكر بثمانين شيقلا؟ لماذا تصمت الجهات الحكومية على هذه الجريمة؟ ألا تستطيع ضبط الأمور ميدانيّا ومن خلال المعابر كذلك؟"

أضافت "أطفالنا يتضوّرون جوعا، ويطلبون أشياء كثيرة لا نستطيع تلبيتها لارتفاع أسعارها. إن لم يستطيعوا وقف الحرب، فعلى الأقل وقف الغلاء ومواجهته بأي طريقة، فليس من المعقول مواجهة حربين من الاحتلال ومن الغلاء".

* لجان حماية شعبيّة

وفي ظل عجز الجهات المحليّة الحكوميّة عن وضع حد لغلاء الأسعار، أُعلن أمس الأول في رفح عن تشكيل لجان الحماية الشعبيّة، التي ستتولى متابعة التجّار وإلزامهم بالبيع بالأسعار المحددة، وفقا لوزارة الاقتصاد، مع معاقبة المخالفين.

وظهر عشرات الملثمين الذين يحمل غالبيّتهم هراوات وبعضهم أسلحة خفيفة ويضعون شارات على رؤوسهم تحمل عبارة "لجان الحماية الشعبية"، وهم يسيرون في مفترق العودة الرئيس برفح، ويتوعّدون التجّار الذين يرفعون الأسعار للبدء فورا بالبيع بالأسعار المعتادة، الأمر الذين قوبل باستحسان النازحين.

وقال أحد الملثّمين "اليوم، تم إبلاغ جميع التجّار وأصحاب بسطات البيع بأنه سيتم بدءا من الغد التنفيذ الفعليّ لخفض الأسعار وعودتها إلى طبيعتها، وإلّا فسيتم التعامل وفق الإجراءات الميدانية مع كل المتجاوزين".

وأوضح أن هذه اللجان مشكّلة من "لجان الأحياء والتجمّعات الشعبيّة وبإسناد وزارة الداخلية لمواجهة غلاء الأسعار".

من جانبه، يعزو مدير المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إسماعيل الثوابتة ارتفاع الأسعار إلى محدوديّة كميّة الأصناف التي تدخل من المعابر ونوعيّاتها بالتوازي مع قلّة المساعدات التي انخفضت بشكل غير مسبوق في مقابل زيادة الطلب جرّاء تكدس النازحين في رفح ودير البلح.

وبينما يُقرّ مدير المكتب الإعلامي بارتفاع أسعار السلع والاحتياجات الأساسية للنازحين بشكل يصفه بالجنوني، فقد أوضح أن هناك مليونا و200 ألف نازح في رفح، وقرابة نصف المليون في المحافظة الوسطي، قائلا إن ازدياد الطلب بالتالي هو ما يؤدّي إلى رفع أسعار السلع بشكل كبير جدا.

وأكّد الثوابتة أن طواقم وزارة الاقتصاد ودائرة حماية المستهلك تباشر أعمالها ميدانيّا بالرقابة على الأسعار، وتبذل جهودا كبيرة في هذا السياق، لكنها لا تستطيع تغطيَة كل المناطق لظروف الحرب، ما يجعلها تنجح في بعض الجوانب وتتعثر في أخرى.

بيد أن هذه الجهود التي يتحدث عنه المسؤول الفلسطيني، لم تُتَرجم على الأرض بعودة ولو جزئيّة للأسعار بشكل يمكّن النازحين من توفير الحد الأدنى من مستلزماتهم الأساسية حتى الآن.