النجاح الإخباري - في ظل الظروف القاسية والواقع المؤلم، حيث الحرب تخطف ألوان الحياة وتحول الأيام إلى لوحات من الأسى والدمار، يقف أهل غزة شامخين في وجه الاحتلال، ينهضون من عمق المجازر والجرائم التي ارتكبت، والحصار الذي سلب البسمة والأمان، يتحدون اليأس بإصرارهم على العيش، محتفظين بإنسانيتهم وعزيمتهم، متمسكين بالأمل في أبسط تفاصيل الحياة، يحاولون مواصلة الحياة ما استطاعوا سبيلا، ويبدو هذا في احتفال خان يونس بعرس جماعي استثنائي، ما يعكس إصرار الحياة في وجه الدمار.

"أفراح في زمن الحرب"
تحت سماء خان يونس التي شهدت الكثير من الأحزان، بزغت نقطة ضوء تبشر بالأمل والحياة. في مخيم للنازحين غرب المدينة، تجمع الأهالي ليشهدوا على عرس جماعي لخمسة عرسان، حملوا على أكتاف الشبان وسط تصفيق حار وأهازيج فلسطينية تخترق القلوب.

الزغاريد تتعالى من خيمة العرائس، والابتسامات تزين وجوه العرسان الذين تمايلوا على أنغام الدحية، الرقصة التقليدية التي تحكي قصص الحرب والنزوح ولكن أيضًا الأمل والتحدي.

يصعد العرسان منصة الحفل ويتزايد التصفيق وصفارات الشباب مع انطلاق أولى الأغاني لفرقة النشيد المكونة من ثلاثة أفراد ألهبوا المكان بالمزاوجة بين أغاني الأعراس الفلسطينية التقليدية المتناغمة مع أوضاع الحرب الراهنة، وأناشيد الحماسة الوطنية التي تفيض بكلمات تحدي إسرائيل وإصرار الفلسطينيين على تحرير وطنهم مهما كانت التحديات.

بين العرسان كان حمادة الخروبي (27 عاما) الأكثر ابتهاجا وتفاعلا مع فقرات الحفل التي بدأت باستقبال الأهالي والمهنئين بعد عصر أمس وامتدت حتى قبيل المغرب، في وقت كان أصحابه يحملونه منفردا ويجوبون به الساحة المقابلة للمنصة بعض الوقت حتى يوصلونه لمكان جلوس عائلته وجيرانه الذين لا يتوقفون عن التصفيق ومشاركته فرحته.

الشاب النازح مع عائلته من حي الرمال بمدينة غزة إلى منطقة المواصي في خان يونس في رحلة نزوح بدأت قبل ستة أشهر تنقل خلالها عدة مرات، كان مقررا زواجه في شهر ديسمبر كانون الأول الماضي، بعد خطوبته قبل أربعة أشهر، لكن ظروف الحرب حالت دون ذلك.

يبين الشاب أن عائلته من محبي الحياة والفرح والحفلات كبقية الفلسطينيين وكانت تنتظر موعد زفافه لتحتفي بهذه المناسبة بأشكال ووسائل الفرح المعروفة والمتاحة بغزة، لافتا إلى أن العائلة صبرت طوال هذه المدة حتى غاب أي أفق لنهاية الحرب وقرر الجميع عقد القران وإتمام الزواج وفق المتاح.

والمتاح، بحسب العريس، لا يعدو كونه بعض الإمكانات المحدودة للغاية المرتبطة بأوضاع النزوح البائسة، فضلا عن أن مآسي الحرب سترافق أهل غزة اجتماعيا ونفسيا لسنوات طوال ولن تسمح بأي مظاهر للأفراح التقليدية المعتادة قبل السابع من أكتوبر تشرين الأول الماضي عندما اندلعت الحرب، مهما توفرت الإمكانات لاحقا وفق تقديره.

يقول "الأمر يتجاوز فكرة عدم وجود صالات أفراح أو بيوت أو أي مكونات لحفلات الزفاف المعتادة لدينا، لكننا نرتبط بواقع مرير عنوانه الإبادة والتدمير الشامل لكل ما يرمز إلى الحياة، ما يعني أننا نفسيا غير قادرين على الاحتفال بالأسلوب المعروف ما قبل الحرب".

يضيف "لذلك آثرنا القبول بما يتناسب وظروفنا الحالية سواء من حيث غياب أدنى متطلبات الزفاف والحياة معا، واكتفينا بحفل جماعي يحضره الأقارب والأصدقاء لنفرح وسط هذا الظلام المميت".

يوضح الخروبي أن شقته كانت شبه جاهزة قبيل الحرب ليتزوج فيها ويبدأ حياته التي كان يتمناها، لكنها تعرضت لأضرار كبيرة جراء القصف الإسرائيلي، مشيرا إلى أنه سيتزوج في خيمة بطريقة لم يكن يقبلها أو يتوقعها حتى في أسوء كوابيسه حسب وصفه.

رسالة أمل 

سعيد سرار، عريس آخر، يشارك قصته المؤثرة، حيث أصيب خلال الحرب بكسور شديدة في قدمه اليسرى ما اضطره لاستخدام عكازين في المشي، فضلا عن مقتل والد زوجته خلال قصف إسرائيلي، يضاف إلى ذلك نزوحه ومغادرة منزله أسوة بسكان خان يونس وانتقاله إلى المواصي.

يؤكد سرار (43 عاما) أنه كان يأمل الاحتفال بزفافه في ظروف مغايرة تماما، لكن واقع الحرب فرض هذا الاحتفال البسيط في ظل استمرارها للشهر السابع على التوالي ولا يمكن التكهن بموعد نهايتها.

يعتقد سرار أن الأمر لن يختلف كثيرا حتى وإن توقفت الحرب في ظل تدمير منزله وحالة الحزن المسيطر على الجميع بشكل كبير للغاية جراء سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى والمفقودين والتدمير الواسع للمنازل والممتلكات.

يقول سرار "في ظل كل هذا، كان لا بد من رسالة تبعث الحياة والأمل في نفوس النازحين الذين يتجرعون مرارات لا تنتهي من العذاب والمعاناة، ولم يكن أمامنا سوى هذا الحفل الجماعي".

يضيف "بالطبع هناك من يعترض على الفكرة ومجرد الغناء والزواج بشكل علني رغم أن الحفل منضبط للغاية ويقتصر على المظاهر الوطنية من حيث الأناشيد والفقرات، لكن الغالبية في حالة ارتياح وتنتظر اللحظة التي تفرح فيها وسط كل ما يحيط بها من أحزان".

وتلقى العرسان بعض المساعدات مثل الخيام والأدوات المنزلية والفرش والبطانيات والسلال الغذائية ومستلزمات أخرى تساعدهم على بدء حياتهم وفق المتاح للعائلات الأخرى بمثل هذه الظروف، بحسب عضو لجنة الإغاثة بخان يونس التي قدمت هذه المساعدات جهاد أبو الريش.

وبموازاة تأكيد المسؤول بلجنة الإغاثة على الرسالة الإنسانية التي يحملها الحفل الجماعي من رغبة الفلسطينيين في الحياة والفرح رغم أهوال الحرب، فإنه يدرك استغراب واستهجان البعض من مجرد الاحتفال بالزواج بمثل هكذا ظروف يسيطر عليها الموت والتدمير والنزوح.

ويعتبر أبو الريش أن الرسالة الأساسية للزفاف الجماعي تتعلق بقدرة الفلسطينيين على الاستمرار في حياتهم مهما كانت ظروفهم بائسة من جانب والتأكيد على حبهم للحياة بكافة تفاصيلها وبضمنها الزواج والاحتفال به ولو بالحد الأدنى من جانب آخر.

في زمن خيّم الظلام في قلوب أهل غزة وأسكنهم في خيام، يأتي العرس الجماعي في خان يونس كتذكير بأن الفرح لا يزال ممكنًا، وأن الإنسانية والأمل يمكن أن ينتصرا حتى في أحلك الأوقات. هذا العرس ليس مجرد احتفال، بل هو تأكيد على أن الحياة تستمر، وأن الفلسطينيين لن يتخلوا عن حقهم في العيش بكرامة وسعادة.

المصدر: وكالة أنباء العالم العربي + النجاح الإخباري