نابلس - النجاح الإخباري - بعيون تحول خضارها للذبول، شردت بذهنها لآخر عبارة قالها: "بدي أعملّك عيد ميلاد كبير تعزمي فيه كل صاحباتك"، تجيبه والسعادة ترقص بعينيها: "حاضر يا بابا هعزمهم كلهم".. الطفلة ليان أبو العطا، طفلة نوفمبر الحزين الذي كتب شِهادة ميلاها وشَهادة أبويها بصاروخ ظالم.

صاروخ واحد، من طائرة حربية تابعة للاحتلال الإسرائيلي حوّل حلمها إلى سراب، وحياتها لجحيم لا يطاق، وأفقدها والدها الأربعيني بهاء أبو العطا، صاروخ أخذ الأب والأم معًا وتركها مع الوجع وجهًا لوجه.

تجتمع النسوة حول هذه الطفلة، لكنهن جميعا يتوشحن باللون الأسود حزنًا، وقد تحولت ذكرى ميلادها التي تحل في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني للحظة نزف على رحيل والديها للأبد، فقد باتت يتيمةً بفعلصاروخ اقتحم منزلا تقطنه الأسرة منذ نحو ثلاثة أشهر فقط، شرق مدينة غزة، حيث حي الشجاعية الشاهد على مجازر الاحتلال واحدة تلو الأخرى.

ليان فقدت الحضن والسكن وحتى ألعابها لتجد نفسها في منزل جدها مع إخوتها الأربعة ومنهم فاطمة (13 عاما) حيث يقام بجواره بيت عزاء قد لا يسلم القادمون إليه من صواريخ الاحتلال أيضًا.

واختلطت بعيون ليان مشاهد ما قبل الدمار بما بعده تغمرها دموع حارقة، وهي تروي حكايات كل اللغات لا تعبر عن كمية الوجع الكامن فيها! فهي لا تنسى أنها أيقظت عمتها عندما أخبرها أبوها بنبأ الاحتفال بذكرى ميلادها، وسارعت لإحضار الكولا وما تيسر من الكعك.

وتحكي ليان بصوت متحشرج كيف اتفقت مع أمها أن توقظها للدراسة فجرًا، عندما استيقظت وحدها لاحقا، نادت: "ماما.."، لكنها لم تجب، ورأت ليان ما رأت، من الدخان وتناثر معظم السقف.

من هذه اللحظة، تروي أختها فاطمة التي تنهمر الدموع من عينيها كالمطر في أربعينية الشتاء، تفاصيل الحكاية، قائلة بكلمات يعيق نطقها وجع وحزن مرير: عند منتصف الليل كنت مع أمي، ثم ذهبت إلى النوم، واستيقظت عند الثانية، وصرخت على أمي وأبي لكن لم يجبني أحد، وصدمت بالسقف وقد انهار.

هرول إليها أخوها لإنقاذها، كانت ليان تبكي وقد انزرعت  قدماها بما تناثر من حجارة، قبل أن يخرجوا للشارع، ثم المستشفى ولا يعلمون أين أهلهم، ليتسلل الخبر فيهدم بقايا الأمل، استشهد الأب والأم رحلت.

لم يكن الجرح في القلب فحسب بل في قدم فاطمة وليان زجاج وحروق ليعم الوجع الروح كلها جراء قصف أنهى فيهم الحياة.

وسط كل هذا الحطام تزاحمت عبارات الأب على مسامع ليان وباتت تتردد محدثة شرخًا أعمق "تزعليش ستك يا بابا". لتقول دموعها نعم، سمعًا وطاعة بعد الرحيل.

كان أبو العطا قدوةً لفاطمة وإخوتها: سليم، ومحمد، وإسماعيل، وليان، وقد أوصاها مرارا: "بدي يا بابا تصيري دكتورة عشان تعالجي الناس، وديري بالك على أختك".

تعود فاطمة للوراء قليلاً بشريط ذكرياتها، إلى اللحظة التي وعدتها فيها أمها بأن تصطحبها إلى السوق لشراء ملابس جديدة لفصل الشتاء، إذا حصدت العلامات بامتحان العلوم، لكنَّ صواريخ الاحتلال أمطرتهم العذاب وطمرت الفرح.

"كانت أمي تقول إنه لو استشهد أبي، فهي تتمنى أن تستشهد معه، وهما الآن في الجنة"، تواصل الطفلة كلامها المعجون بالألم.

فيما بعد غزة كلها شاركت فاطمة وليان الألم فما استشهاد أبو العطا إلا مقدمة لعدوان شنّه الاحتلال على قطاع غزة المحاصَر منذ 13 سنة، ويعيش مليونا فلسطيني فيه دون أدنى حق في الحياة .

غريب ذلك الجلد والتصبّر لقلوب بعمر الورد، وليس غريبًا على من زرعت العزة في نفوسهم، فوقفة الشموخ لم تهدمها الصواريخ: "بحكي لأطفال العالم أنا بنت شهيد!"؛ توجه فاطمة كلماتها بكل أسى، بعدما قالت: "من حقي أعيش في حضن أبويا، لكن إذا كان ربنا أراد يسبقونا لعنده شهداء فأنا لاحقتهم ومعي حلمهم وشهاداتي".

شمعة الـ11 ربيعا أطفأها الصاروخ وفقد الوالدين، هذا بات واقع ليان وفاطمة، لكن يشاركهما فيه العديد من الأطفال الذين حرمهم الاحتلالُ الطويل آباءهم، وحوَّلهم لأيتام.