علي جرادات - النجاح الإخباري - ارتقى مئات من أسرى وأسيرات حرية فلسطين؛ جرّاء الإهمال الطبي، وسوء التغذية، والتعذيب والتنكيل، وإطلاق الرصاص وعبوات الغاز، ومعارك «الأمعاء الخاوية»، والإعدام الميداني فور الاعتقال، والاغتيال داخل السجن، وخارج السجن، داخل الوطن، وخارج الوطن. ناهيك عن أسرى وأسيرات كُثر أورثهم السجن جروحاً غائرة في النفس، وعاهات دائمة في الجسد، جعلتهم «شهداءَ مع وقف التنفيذ»، ارتقى منهم من ارتقى، فيما لا يزال الباقون منهم يصارعون المرض والجُرح، حتى باتت حياتهم معلقة بخيط رفيع بين الحياة والموت داخل غرف وساحات وعيادات السجون وزنازين مسالخ التعذيب والعزل الجماعي والحبس الانفرادي و«مقبرة للأحياء» تُسمَّى «مستشفى الرملة».

ويوم الأربعاء الماضي ارتقى فارس بارود الذي كان فارساً بحق. إنه أحد «قدامى الأسرى»، «أسرى ما قبل أوسلو»، الذين تطويهم الزنزانة منذ عقود، لكن الأمل لم يغادرهم، ولا الصبر فارقهم، كأنهم أيوب ويزيد في صبره، فأصبحوا، سيرة ومسيرة، بطولة ومعاناة، مكاناً ومكانة، موقعاً وموقفاً، على كل لسان، كأنهم ماء عذب صافٍ يطفئ ظمأ المُستباحين والمشردين، وترابٌ ينتظر المطر، إنهم حُراس قيم الثورة، ملح الأرض الذي لا يفسد، وضمير الشعب الذي لا يَصدأ: كريم وماهر يونس، نائل البرغوثي، محمد الطوس، وليد دقّة، إبراهيم ورشدي أبو مخ، إبراهيم بيادسة، أحمد أبو جابر، سمير أبو نعمة، محمد داوود، بشير الخطيب، جمعة آدم، محمود أبو خرابيش، سمير سرساوي، محمد السعدي، إبراهيم ومحمد ويحيى إغبارية، محمد جبارين، ضياء الفالوجي، محمد الفلنة، ناصر ومحمود أبو سرور، محمد وعبد الجواد شماسنة، علاء الكركي، محمود عيسى، ونائل سلهب.

ارتقى فارس بارود، ابن مخيم الشاطئ، ابن غزة، ظلت تأتيه في أحلام نومه، يراها تمتشق برتقالها قنابل في وجه المحتلين في زواريب منحنياتها، وفي زحمة أسواقها، تأتيه وأبطالها الذين يخطفون العناد من موج بحرها، كأنهم العماليق في آخر الزمان. ارتقى فارس بارود الذي كابد السجن ثمانية وعشرين عاماً، تنقَّلَ خلالها من سجن إلى سجن، من زنزانة إلى زنزانة، من «برش» إلى «برش»، لكنه بقي حراً، لا يعرف غير ثبات الموقف، وطَّن النفس على حياة معاركة وحشة السجن وتوحش السجان، واعتاد تفاصيل حياة الزنازين لدرجة الملل.

ارتقى فارس بارود في سجن ريمون، سجن يذوب فيه السجين نهاراً تحت قيظ الصيف، ويعيده الشتاء ببرد لياليه إلى يوم ولدته أمه مقرفصاً يبحث عن لحظة دفء، لحظة حُجبت حبة الدواء عن فارس الذي حجبته الزنزانة كقمر تحجبه غيوم حملتها الريح، ريح تصفر، تصفع أغصان الشجر، فتصدر أصواتاً أشبه بالعويل.

ارتقى فارس بارود الذي غيبته الزنزانة، فأصبحت المناجاة تسكن عمق نفسه، تعيده إلى الخواطر والذكريات القديمة، وتحرك فيه أشواقاً تغسل تعب الروح بشذى الصور الزاهية، كأنها تولد الآن، يانعة طرية كالتراب يرتوي من زخات المطر الأولى، يشتاق إلى نبتة تغوص في ذراته تتجذر، تورق، تحضِّر نفسها لأزهار الربيع وثمر الصيف. ارتقى فارس بارود بعد ثمانية وعشرين عاماً، ظل خلالها يستحضر صور الأهل له هناك، في البيت ينتظرون، كأنهم ينتظرون «غودو» آخر لا يأتي، لكنهم يواصلون الانتظار، عسى القيد ينكسر، فيبزغ الفجر، ويُسمع هديل حمام البيت، وزقزقة عصافير الصبح.

ارتقى فارس بارود، وهو يستحضر صورة الأم، أمه، ظلت تنتظر عودته حياً حتى رحلت، وظل يأتيها في أحلامها، كظلال قمر، متسللاً بين الضباب والأشجار، يسكن خيالها في صحوها ونومها، ومع قطرات المطر تنقر النافذة تتذكر نقرات أصابعه على ذات النافذة، حينما كان يعود، متأخراً، إلى البيت، فتهبّ لاحتضانه وتقبيله وتحضير العشاء وفنجان القهوة، وتهمس «لماذا تأخرت»؟ «دير بالك، أولاد الحرام كثار»، «نفسي أشوفك عريس وأفرح فيك يَمَّا...». ارتقى فارس بارود، حكايته حكاية مئات الشهداء الذين رقدوا رقدتهم شهداء داخل سجون الاحتلال، فسجنت جثامينهم في «مقبرة الأرقام»، أو أعيدوا إلى أهلهم ملفوفين ب«الكيس الأسود» إياه.

ارتقى فارس بارود وهو يستحضر صور لحظاتٍ جميلة سعيدة، لحظات مملوءة بالحب والشوق إلى الحياة، لحظات سعادة تمرح على شفاه وعيون يغمرها سيل من دفق المشاعر.

عن القدس الفلسطينية