نابلس - د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - كرست عوامل مختلفة أمتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.

في المقال السابق تم مناقشة الإستبداد ومنع الحرية الفكر على تأخر الإنتاج العلمي وفشل الإبداع الفكري، وكيف عملت السلطة الشمولية، بفرعيها السياسي والديني، على تغييب نظرية المعرفة خوفا على مركزها السلطوي أو فقدان سيطرتها على المجتمع والافراد، مما يجعلنا نثير النقاش عن دور الفكر الديني وفهم نصوصه في النهضة في النهضة العلمية والمعرفية للمجتمع العربي المسلم.

بالعودة الى النص القرآني نجد انه وضع مناهج وقواعد عامة للتعامل مع المعرفة أو الموروثات، حيث إنتقد وسائل المعرفة ومصادرها المتعلقة بالنقل وجمود الفكر، ﴿قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾. ثم أسس لقواعد بحثية جديدة، هدفت الى التحرر من تراكمات الماضي، وطالبت بتحري صدق المعلومة والبحث عن مصدرها، وأمر الناس بالسير في الارض والتحقق من أخبارها، بل وكشف أسرار الكون، والمخلوقات وما حولها من قوانين ومتغيرات، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ ليكون ذلك أساسا علميا ومنهجيا يجب إعماله عبر جميع العصور، وفي مختلف الافكار والعلوم، سواء كانت متعلقة بالوجود، أو الخالق، او الطبيعة أو الكون.  ورغم محاربة المنهج القرآني للعقل النقلي التقليدي، إلا أن ذلك لم يمنع من انتشار المنهج التلقيني عن معظم المدارس الفقهية والفكرية العربية منذ مرحلة الدول العباسية الثانية إلى يومنا الحالي. وقد أدى انتشار تلك المدرسة النقلية الى جمود المعرفة، ومنع التأويل، ومحاربة الفكر الناقد، وبالتالي فصل الدين عن واقع العصر، وإنحصار قدرته على الاستجابة لمتطلبات الواقع المتغير.  في المقابل، نجد أن الفكر النقدي الذي دعا له النص القرآني، يمكنه أن ينتج فكرا قادرا على السير بتناغم مع مقاصد الدين من جهة، ومع نضوج الوعي الجمعي للإنسانية، وحاجات العصر الملحة.

فالمنهج النقدي العلقي، يمكنه وحده فهم مقاصد القرآن الكبرى وتحري أهدافه العامة التي دعا الإنسانية جمعاء للتمسك بها، تاركا لهم طرق ووسائل تحقق تلك المقاصد والاهداف وفق واقعهم وقدرتهم على التخيل والابداع. فمثلا وضع القرآن قواعده العامة وفلسفته الخاصة في أصل التعامل الإنساني، حيث غرس القرآن بذرة الأخلاق الصلبة، ثم طلب منا سقاية تلك الغرسة، والعمل على تطويرها؛ وليس التوقف عند حدود تلك البذرة أو مرحلة غرستها الاولى. نلمس ذلك جليا في قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ>

فرغم حث القرآن في مواضع كثيرة على الإحسان والتقوى، ومنعه للفاحشة والبغي، إلا أنه لم يضع أي محددات أو مقيدات لتبيان معنى الفاحشة أو الاحسان، بل تركها مفتوحة لما أوزعه الله في قلوب وعقول البشر من تصور وتطور لمعاني حُسن الخلق أو سوء التصرف. وهكذا تكررت الآيات التي تدعوا الى التفكير والتدبر، والدعوة الى الإحسان والتقوى، دون تقييد تلك المصطلحات بمحددات جامدة، أو تعريفات مقيدة، مما يفرض على الناس إستخدام المنهج العقلي النقدي، من أجل تفسير تلك المعاني، والوصول للحق والخير والجمال وفق واقع العصر، وتقدم المعرفة، وإرتقاء الإنسانية. وبالتالي تبقى تلك المعاني تتدرج تلقائيا مع تدرج إرتقاء الأخلاق الإنسانية، وترتفع بما يتناسب مع مدى السمو الفكري والشعور الإنساني، ورقي الوعي الجمعي.

 وفق ذلك يمكن القول بأن المنطلق العام الذي دعا إليه القرآن وطالب البشرية جمعاء بالتمسك به، هو أن كل حق وخير وجمال يتوصل له الإنسان عبر تطوره الفكري والحضاري يكون حتما من عند الله، أمر به وحث عليه؛ وأن كل ما هو خلاف ذلك الحق والخير والجمال، يكون منهي عنه، أمر الله بتجنبه وحثنا على البعد عنه. فالأخير يمثل الفحشاء المنهي عنه بالقرآن، والأول يمثل التقوى والاحسان الذي أمر القرآن به. وبالتالي فإن ما ورد في القرآن من موانع أو أوامر إنما كانت على سبيل المثال لا الحصر، أي أنها تضع للفرد الحدود الدنيا للإخلاق الأنسانية، ثم تطالبه أن يطورها ويرتقي بإنسانيته معها، بحيث لا يقف مفهوم الاخلاق عند عصر سابق بما في ذلك عصر الصحابة، بل تبقى معاني الأخلاق ومفاهيم الخير والحق تسمو وترتقي مع تطور الأخلاق الإنسانيته، تلامس واقعهم وتسير مع إنسانيتهم في كل عصر وزمان ومكان. ولضرب صورة أوضح لما سبق يمكن النظر الى موقف الإنسانية من مسألة الرق، حيث أن العبودية أو الاستعباد لم تمثل مشكلة اخلاقية في عصر السابقين بما في ذلك زمن الصحابة، ثم تطور الوعي الانساني في العصر الحديث حتى تمكن من ربط الاخلاق بالحرية والكرامة الإنسانية.  كذلك فإن مفهوم المواطنة، وحقوق الانسان، وقوانين العمل، وحقوق المرأة والأقليات وذوي الحاجات الخاصة وغيرها، أصبحت اليوم أكثر تقدما في الوعي الجمعي للإنسان، وبالتالي فان ذلك التطور الأخلاقي الذي وصلت له الانسانية يجب أن يمثل التقوى والاحسان الذي أمر القرآن به.

كذلك الأمر في شؤون السياسة ونظام الحكم، حيث جعل القرآن العدل وتحري العدالة هو المنهج الذي يجب أن يسير عليه الناس ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ فالأمانة والعدل هي المقصد العقلي الذي دعا له القرآن وحثنا عليه، دون تحديد مفهوم خاص للنظم التي علينا أن نستخدمها في تحقيق مراد الله في إقامة العدل. ولعل ربط العدل بكل من الأخلاق (تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ) وسياسة الحكم (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ)، ثم تكرار ذلك في مواقع كثيرة، دون تحديد مفهوم حصري لتلك المفردات أو تقييدها بتعريف معين، لأوضح دليل على مقصد القرآن بأن مفهوم العدل يجب أن يرتبط بمدى تقدم الفهم الجمعي للأخلاق الحميدة، وأن وسائل الحفاظ على منظومة العدل والعدالة يجب أن تتطور بمقدار تطور الوعي العام للأخلاق الإنسانية، ومدى تقدم أنظمة الحكم السليمة، حتى يكون تأدية الامانة، او تحقيق العدل، قد تم فعلا بإحسان.

من هنا فان القول او الإعتقاد بأن القرآن هو آخر الرسالات السماوية، لا يستقيم مع ما ينادي به أصحاب الفكر التقليدي والعقل النقلي، لان ذلك الفكر غير قادر على تطوير مفاهيم الأخلاق، أو مقاصد العدل الذي دعا إليها القرآن. فتوقف فهم القرآن عند شرح السابقين، أو تفسير الأولين، أو الوقوف عند خطاهم والتقيد بمصطلحاتهم، لا ينتج فهما قادرا على تحريك النصوص وفهم معانيها بشكل يتوافق مع أي مكان ويلامس كل زمان. بل إن صدق الإعتقاد بكون القرآن صالح لكل عصر ومكان، لا يتحقق إلا إذا فهم القرآن على انه منهاج ومقاصد، وضع للناس لكي يتعلمكوا طرق التفكير والاهتداء، وليس محددات وأحكام وضعها الله بشكل حصري ومقيد بحيث لا يمكن ان نخرج عن إطارها أو التفكير خارج مربعها، وإلا كيف نفهم قوله تعالى، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾. فلا يعقل أن يكون القرآن تبيانا لكل شيئ إلا إذا كان المقصود أنه أوضح لنا المنهج العقلي، وأعطانا وسائل المعرفة التي من خلالها نستطيع الوصول إلى كل خير والابتعاد عن أي سوء، وفق حاجات الناس وبما يتناسب مع علومهم وثقافتهم في كل زمان ومكان. وليس من باب الصدفة أن تكون الأية التالية هي قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾، في ربط واضح لضرورة إستخدام المنهج العقلي النقدي في تفسير الإحسان والفحشاء حتى يصل الناس للحق والخير والجمال وفق واقع عصرهم وتطور ثقافتهم الإنسانية، وبالتالي يكون الكتاب قد بين لنا كل شيء نحتاجه للوصول إلى مراد الله وسعادة البشرية، وصلاح الكون. 

بالإضافة إلى ذلك، فان انقطاع الوحي عن الناس، يفيد حتما أن البشرية قد بلغت رشدا ونضجت وعيا، بشكل يمكنها من وصل ما قُطع من الوحي، عبر إعمال العقل ونَظمِ الفكر في فهم مقاصد القرآن الكلية. فقد جعل الله الانسان خليفته على الارض ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ، ثم كرمه الله بان ﴿نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ، وميزه عن غيره بأن علمه الاسماء كلها ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. فالإستخلاف في الارض قد ملكناه بإعمال العقل وإشغال الفكر، وتلك الروح التي نفخها الله في الانسان قد أحيت فينا الوعي حول الذات والغير، وبالمعلومة التي علّمها الله لآدم، وعجزة الملائكة عن إحاطتها، تكونت لدينا المعرفة. تلك عناصر الكلمة -التصميم- التي أحيت الانسان، وجعلته يرتقي على سائر المخلوقات، فحق للملائكة أن تسجد لكلمة الله وعظيم صنعه؛ إنها قدرة الإنسان على التفكير وإعمال العقل حتى يصل بها إلى جنة المعرفة. وبهذا الفهم، وبتلك المكونات، يكون القرآن مصدر المعلومة، ولا تحيا المعلومة دون نفخ الروح فيها عبر الوعي والتفكير، وبإخضاع المعلومة للتفكير الواعي تتكون المعرفة، ومن ملك المعرفة إستطاع خلافة الارض، وإستحق التكريم على سائر الخلق ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.

من هنا يمكننا ان نفهم لماذا لم تقيد النصوص القرآنية عقل الصحابة عن معرفة الحق، حيث فتحت العقلية النقدية بصيرة أبو بكر في ضرورة تأسيس الدولة ولو أدى ذلك لمحاربة من يشهد بالإسلام. ومرة أخرى يستخدم عمر أدوات المعرفة النقدية في التعامل مع متغيرات العصر ومتطلبات الواقع والمجتمع، فمنع توزيع الأراضي عن الجيش، حتى تكون وقفا للأجيال القادمة وحتى يحافظ على ميزان الدولة وحماية أراضيها. كما استلهم عمر ان إعطاء المؤلفة قلوبهم لم يعد في عصره قابلا للتطبيق، بعد أن إنتهت العوامل التي فرض ذاك الإعطاء، ويوقف حد السرقة استجابة للمتغيرات الطارئة على مجتمعه. هذا هو النهج الحق الذي نزل به القرآن، يحث على التفكير ويمنع التقليد والتلقين، حتى مكن عمر وقبله أبو بكر من التوفيق بين الحكم بما أنزل الله، مع الحكم بمقتضيات الواقع، ومصلحة الدولة والناس.

إن هذا المنهج النقدي الذي التزم به المسلمون في مراحلهم الذهبية، جعلهم يتعاملون مع النصوص الدينية بما يخدم واقعهم ويثري حياتهم، ويقوي معارفهم. وبالتالي سمح لهم ذاك الوعي وتلك المعرفة بالتقدم والإنطلاق نحو توسيع الدولة الإسلامية الناشيئة وتلاقي الحياة الثقافية والاجتماعية بين الحضارة الوليدة وباقي الدول التي امتدت إليها، واستمر الفكر الديني بالتطور والارتقاء، وتوسعت مداركهم المعرفية سواء في العلوم الإنسانية أو الطبيعية، واستمر ذلك لما يزيد عن مئة سنة أو حتى نهاية المرحلة العباسية الأولى. فالدين لا يعبر عن ذاته، بل يعبر عنه ما يملكه أصحابه من مناهج وأفكار وفلسفة ومنطق.

إن العقلية النقدية التي فتحت آفاق التقدم والمعرفة في العصر الأول للعالم الإسلامي، تبرأ منها اليوم أصحاب المدرسة النقلية، حتى انهم لا يسمحون إلا بتقليد أفعال السابقين واقوالهم دون زيادة أو نقصان، فأنهو بذلك تطور الاخلاق والعدالة ونظم الحكم والحضارة. لكن كيف أنهى أصحاب المنهج النقلي رسالة القرآن في إعمال العقل وتحرير الفكر، حتى ألزمونا حدود أقوال السابقين وأفعالهم، وليس منهجهم النقدي؟ وما الذي مكن أصحاب المنهج النقلي من تحويل العقلي الاسلامي من نقدي إلى نقلي، ثم السيطرة على مقاصد القرآن الكلية ومعانيه الجزئية، إلى ان ربطوا كل خير أو شر بما وردهم من موروثات الماضي دون وصله بالحاضر؟  هذا ما سنبحثه في المقال القادم.