وكالات - عاطف ابو سيف - النجاح الإخباري - بدا المشهد مألوفاً أن يحدث انقلاب في دول إفريقيا، سيما أن الكثير من دول القارة، التي عانت أهوال الاستعمار، ما زالت غير مستقرة وتشهد من فترة إلى أخرى جملة انقلابات تطيح بفرص تطورها، لكن هذا المشهد لم يكن أمراً طبيعياً. صحيح أن ثمة دعاوى ومطالب ومرافعات من قبل من قاموا به يمكن مناقشتها، ويمكن أن تكون سبباً وجيهاً في نظر البعض للقيام بذلك، وصحيح أن الدولة نفسها وقعت تحت مخالب الكثير من الطامعين؛ بسبب ما تحتويه من خيرات وكنوز، إلا أن ما حدث فيها بعيد كل البعد عن أن يكون جزءاً من صراع داخلي أو بحث مشروع عن توزيع عادل للثروة.
ببساطة، إنه جزء من تلك الارتدادات المتوقعة والمحتملة للحرب بين روسيا وأوكرانيا، أو للدقة بين روسيا والغرب بشكل عام، والذي يقف بكل قوته خلف كييف. ارتدادات متوقعة ومحتملة من جهة أنه من الطبيعي أن يتم البحث عن ساحات خلفية للحرب من أجل إلهاء الخصوم، ومن أجل استعراض القوة بشكل مختلف. هذه الارتدادات جزء من الصراع الخفي الذي هو في جوهره جزء من الصراع الكبير الذي يدمر المدن، والذي يأخذ أشكالاً مختلفة كلها تصب في غاية استمرار الحرب، التي بات واضحاً أنها لن تنتهي - كما قلنا على هذه الصفحة منذ أكثر من عام - وأنها ستتطور إلى حرب «باردة» بشكل جديد. وكونها حرباً باردة لا يعني أنها مجرد حرب استخبارات وحرب معلومات وسباق تسلح، بل حرب غير معلنة بشكل جلي بين قوات الناتو وبين الدولة الوحيدة التي ظلت تقف بصلابة في وجه هيمنة أميركا على العالم، أي روسيا. حرب باردة من جهة أنها لن تنتهي بضربة أو تنتهي في يوم وليلة، بل ستظل وستمتد من أجل أن تظل، وليس من أجل سبب آخر، حتى سيبدو أن الأطراف لا تريد لها أن تنتهي، حتى الطرف الضعيف، أي أوكرانيا، لا تريد لها أن تنتهي لأنها تريد أن تضمن أنها لن تتكرر بعد ذلك، وتريد أن تصبح جزءاً من حلف الناتو حتى تغدو أي حرب روسية عليها حرباً على الحلف برمته.
فبالنسبة لكييف، فإن أي وقف لا يضمن ذلك، ولا يضمن دخولها نادي الأقوياء في أوروبا، سيعني تركها فريسة لأي تطور روسي مستقبلي. وطالما كان ثمة بحث مستمر ومنهمك لاستمرار الحرب، وعزوف عن إنهائها، وهو أمر من الصعب تخيل استحالة حدوثه، فالحاجة تبزغ لفتح جبهات جانبية يتم فيها استعراض القوة والإضرار بالمصالح من أجل تشتيت التركيز. فالناتو هو من يجعل كييف قادرة على البقاء طوال كل تلك المدة ويحميها من السقوط، ويساعد في تطوير قدراتها على المساس بالمنظومة الروسية، وربما أن حرب «المسيّرات» ليست إلا جزءاً من التحول في قدرات أوكرانيا بشكل واضح. وعليه فإن ما يجري حرب استنزاف يراد لها أن تستمر؛ لأن الطرفين الرئيسيَّين فيها لا يريدان لها أن تنتهي دون هزيمة محدقة بالطرف الآخر، وهو ما يصعب حدوثه. بالنسبة للناتو، فإن كييف أيضاً غير مسموح لها أن تستسلم؛ لأن هذا يعني أن الدبابات الروسية ستكون أقرب من أي وقت مضى لمواقع الناتو في وسط وشرق أوروبا، ولأن الانتصار يجر معه بهجة التفكير في مغامرة جديدة. هذا هو الكابوس الذي لا يمكن لأوروبا أن تسمح له أن يقع. وبقدر ما تقاتل كييف نيابة عن القارة الثرية بقدر ما ترغب موسكو في تدفيع هذه القارة أثماناً باهظة جراء هذا التدخل.
نعم، فالتدخلات الروسية في إفريقيا جزء من تدفيع موسكو لأوروبا ثمن تدخلها في حديقتها الخلفية، وثمن دعمها غير المشروط لكييف، وثمن إرسالها لشحنات السلاح بلا توقف للجبهة من أجل المساس بالقدرات الروسية. بالنسبة لموسكو، فإن الصراع لم يعد مع كييف، وإن كان المقصود هو استسلام زيلنسكي وجيشه، بل هو مع الناتو ودوله الكبرى تحديداً فرنسا وبريطانيا. وربما أن باريس الأكثر تشدداً على مستوى الخطاب من كل دول أوروبا في انتقاد موسكو إلى جانب بعض القوى الأخرى. وعليه، فإن المساس بمصالح أوروبا أو بالأحرى مصالح الدول المتنفذة في القارة، وتحديداً فرنسا، يشكل إستراتيجية مهمة في الحرب من أجل الاستسلام وترك الجبهة.
بالنسبة لباريس، فإن إفريقيا جوهر تاجها الاستعماري، ومصدر ثرائها الذي جعلها تواصل تألقها الاقتصادي رغم احتلالها من قبل القوات النازية خلال الحرب العالمية وظلت قوة يعتد بها بعد انهزام هتلر ولم تتراجع. ببساطة، فإن الثروات الإفريقية جزء أساس من مسيرة الوجود الفرنسي، وحتى اللحظة ظلت العواصم الفرانكفونية في القارة السوداء محروسة برعاية فرنسية، بل إن بعضها ما زالت فيه قواعد عسكرية فرنسية، وشهدت العقود الأخيرة في القرن الماضي تدخلاً مباشراً للقوات الفرنسية في حماية بعض مصالحها هناك، إذ لم تتوانَ باريس في الدفع بكل ممكناتها من أجل الحفاظ على هوية تلك البلاد الفرانكفونية في مقابل الهيمنة الأنجلوسكسونية بنسختها الأميركية المطورة.
لذا، فإن التدخل الروسي بدعم ما يجري في النيجر، وربما الوقوف خلفه بشكل مباشر أو غير مباشر، جزء من هذه الإستراتيجية للمساس بمصالح أوروبا بشكل مباشر وعنيف حتى ترتدع عن توفير مصادر وسلاح ومال للقوات الأوكرانية. المؤكد أن ما يجري في النيجر سيؤثر على قدرات فرنسا بشكل جلي، وسيؤثر على تدخلها في الجبهة الروسية بشكل ملموس. والطبيعي أن المساس بمصالح أوروبا في القارة الإفريقية لن يتوقف على ما يجري في النيجر، بل قد يمتد إلى جبهات أخرى ليبقى السؤال المعلق: إلى متى سيصمد الشرق الأوسط ويظل بعيداً عن ارتدادات الحرب الدائرة؟!