وكالات - محمد ياغي - النجاح الإخباري - انتهت المعركة التي استهدفت المقاومة في مخيم جنين بفشل القوات الإسرائيلية المحتلة، فهي لم تنجح باجتثاث المقاومة بالقتل والاعتقال ولا بتدمير بناها التحتية المتواضعة، واضطرت للانسحاب بعد أن عجزت عن التوغل داخل المخيم خوفا من أن تلحق بها خسائر فادحة في الأرواح مثلما حدث لها العام ٢٠٠٢ عندما خسرت أكثر من ٢٣ ضابطا وجنديا في المعركة التي أطلق عليها الراحل عرفات، معركة جنين غراد.
معركة «بأس جنين» كما أطلقت عليها المقاومة تختلف في ظروفها عن «جنين غراد».
الأخيرة حدثت في ظل انتفاضة عارمة شملت جميع مناطق الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وفي ظل مشاركة جزء من قوات الأمن الفلسطينية في الانتفاضة. لكنها أيضا حدثت في ظل وجود قطاع غزة تحت الاحتلال وانعدام القدرة على الردع المضاد لعدم توفر الإمكانيات والخبرات العسكرية للمقاومة، وفي ظل بيئة تنظيمية اتسمت إلى حد ما بالفوضى.
إقليميا، كانت الدول العربية في ظل معركة جنين غراد متماسكة، لكنها لم تكن فاعلة ولا مؤثرة في الصراع مع الاحتلال. ودوليا، كان الغرب كعادته منحازا وداعما لإسرائيل.
على العكس من ذلك، معركة «بأس جنين» حدثت بعد تحرير المقاومة لغزة، وبعد تطوير المقاومة لقدراتها وإمكانياتها وخبراتها العسكرية بما يمكنها إلى حد ما من الردع.
وهي حدثت أيضا في بيئة تنظيمية أفضل من السابق. لكنها للأسف تأتي في ظل انقسام فلسطيني بين نهجين سياسيين مُختلفين في التعامل مع الاحتلال.
إقليميا، معركة جنين حدثت بعد انهيار العديد من الدول العربية وانشغالها بنفسها، لكنها أيضا حدثت في ظل صعود متنامٍ لقوى عديدة مسلحة ومتحالفة في رؤيتها وتنسيقها وعدائها لدولة الاحتلال. أما دوليا، فالحال لم يتغير لجهة عداء الغرب للمقاومة الفلسطينية ولانحيازه المطلق والأعمى لإسرائيل.
الصمود الأسطوري للمقاومين في معركة «بأس جنين» أمام جيش يعتبر من أقوى الجيوش العالمية، والتغيرات المحلية والإقليمية تسمح لنا بتسجيل العديد من الاستنتاجات، منها:
أولا، أن الاستثمار في المقاومة هو الطريق الآمن للخلاص من الاحتلال. إن الخطأ التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة كان إهمال بناء بنية عسكرية لها في الأراضي الفلسطينية المُحتلة والاعتماد على قواعدها العسكرية في الخارج للعمل المقاوم، بداية في الأردن وبعدها في لبنان.
الأصل كان بناء بنية عسكرية في المناطق المُحتلة والاستفادة من «الخارج» لدعم هذه البنية ماديا وعسكريا وسياسيا وتطوير هذه البنية مع الوقت باعتبارها الأساس لدحر وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
ثانيا، الردع سلاح فعال. المقاومة في جنين قاتلت وصمدت بشكل أسطوري، والخوف من الخسائر البشرية منع الاحتلال من التقدم، لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد الذي منعها من تدمير المخيم لسحق المقاتلين.
خوف إسرائيل من أن تنهال عليها الصواريخ من غزة، كان عاملا رادعا لها منعها من ارتكاب مجزرة في مخيم جنين.
ثالثا، نُضج المقاومة. لم تتصرف المقاومة بشكل عاطفي خلال المعركة، وهذا امتداد لسلوكها خلال آخر معركتين مع غزة عندما قامت حركة الجهاد الإسلامي بالدور القيادي بينما وقفت حركة «حماس» في الخلف.
لسبب «عاطفي» طالب العديد من الفلسطينيين المقاومة في غزة بالتدخل منذ بداية المعركة، لكن المقاومة في غزة لم تتدخل وبقيت في وضع المراقبة، لكنها قالت وعلى لسان العديد من قادتها إنها لن تسمح بسحق المقاومة في جنين.
كانت هذه رسالة واضحة وصريحة بأن تدخلها يعتمد على سير العملية العسكرية للاحتلال في جنين.
هنا علينا أن ننتبه إلى أن معركة جنين هي جزء من معركة طويلة مع الاحتلال، وأن المقاومة تعي ذلك، وهو ما يفرض عليها التفكير بشكل إستراتيجي مختصرة أن عليها ألا تنجر لكل معركة يفرضها الاحتلال بطريقته وعليها ألا تلقي بكامل ثقلها في كل معركة حتى لا تستنزف نفسها وهي تسعى لاستنزاف الاحتلال. لكن عليها أيضا ألا تسمح للاحتلال بأن يمنعها من مراكمة قوتها وتعزيز قدراتها، وهو ما يعني أن عليها أن تقرر في كل معركة على حده كيفية مواجهة الاحتلال فيها.
بالطبع هذا سيترك مجالا واسعا للاحتلال وحتى «للعاطفيين والمتسرعين» في الشعب الفلسطيني للتشكيك في المقاومة وفي محاولة إظهار وجود انقسامات داخلها، لكن يجب ألا يكون هذا سببا في ابتعاد المقاومة عن التفكير الاستراتيجي الذي يستهدف استنزاف الاحتلال ومراكمة قوتها واختيار معاركها الكبيرة.
رابعا، الانقسام سياسي لكن الشعب موحد حول المقاومة. الانقسام السياسي والجغرافي يشكل بلا شك عاملاً سلبيا يعيق تطوير المقاومة الفلسطينية ويضع أمامها صعوبات وعوائق عليها تجاوزها والانشغال بها بدلاً من التركيز الكامل على مواجهة الاحتلال.
لكن هذا الانقسام تقابله وحدة شعب في كل ساحاته. شعب يؤمن بأن المقاومة هي طريق الخلاص من الاحتلال. بعض من هذا الشعب منخرط في المقاومة والبعض الآخر متعاطف معها ويحتضنها، وهو ما يعني أن طريق وحدة الفلسطينيين السياسي هو في النهاية من خلال المقاومة. سيدرك البعض عاجلا أم آجلا، بأن الوحدة السياسية الفلسطينية لا تتحقق في جلسات الحوار في العواصم العربية، ولكن من خلال الوحدة الميدانية في مواجهة الاحتلال.
خامسا، لا يمكن المراهنة بأي حال على ما يسمى المجتمع الدولي. دولة الاحتلال أخذت الضوء الأخضر من واشنطن لاستهداف مخيم جنين ومدينتها، والغرب عموما أظهر تفهمه لما تقوم به إسرائيل من حرب على «الإرهاب» ودعاها للعمل على «توخي» الحذر وهي تكافح «الإرهاب» حتى لا تقتل العديد من المدنيين!
إلى أن يُصرح الغرب بأن المقاومة وبكل أشكالها حق مشروع للشعب الفلسطيني للخلاص من الاحتلال، هذا الغرب - الذي يدعم أوكرانيا بكل ثقله المادي والسياسي والعسكري، بينما يعتبر المقاومين الفلسطينيين إرهابيين - يجب عدم الثقة به، أو احترامه، أو التفكير به كعامل يُمكن الاستفادة منه للخلاص من الاحتلال.
أخيراً، علينا أن نعترف بأن نُضج المقاومة لا يمنعها إلى الآن من ارتكاب الأخطاء. تعدد فصائل العمل المقاوم هي ظاهرة تُميز العمل الفلسطيني. التعددية السياسية مطلوبة لحماية «الديمقراطية»، لكن التعددية في فصائل المقاومة هي شيء سلبي وهي عامل معيق لتطوير هذا العمل.
لا يمكن مطالبة فصائل المقاومة بالاندماج لأسباب يمكن بيانها في مقال آخر، لكن لا يوجد أي سبب يمنع هذه الفصائل المقاومة من إصدار بياناتها من غرفة عمليات مشتركة.
في نصف كيلومتر مربع، مساحة مخيم جنين، حيث يواجه العشرات من المقاتلين أكثر من ١٢٠٠ جندي إسرائيلي والعشرات من الدبابات والجرافات والطائرات، يجب ألا تصدر بيانات عن الجهاد الإسلامي أو حماس أو كتائب الأقصى. يكفي أن يصدر بيان من جهة واحدة وهي كتيبة جنين التي ينتمي لها جميع المقاومين.
هذا طريق تكريس الوحدة الميدانية وهو ما يُوحد الشعب الفلسطيني في ساحاته المتعددة، وهو الطريق الحقيقي للانتصار. بالطبع هناك فصائل مقاومة تتحمل عبئا أكبر من غيرها في المقاومة بسبب حجمها وخبرتها ودورها في المواجهة، لكن هذا يجب ألا يمنعها من رؤية الصورة الأكبر، وهي أن الوحدة، خصوصاً في الميدان، هي طريق إنهاء الاحتلال.