وكالات - حسن البطل - النجاح الإخباري - من قرية عطارة (أو قنطرتها الشهيرة، المسماة جسراً)، شمال بيرزيت، إلى قرية دير ابزيع، غرب رام الله، تشعر أنّ هذه المنطقة المصنّفة “باء” قد صارت مصنّفة ”ألف”.
.. ولكنه ليس إلّا شعور مؤقت، خادع أو “لوجستي”. فعلى امتداد 15كم هوائياً (وضعف هذه المسافة من الطرق الرئيسة، الفرعية.. والالتفافية) لم يصادفنا، أول من أمس، الجمعة، غير حاجز واحد لجيش الاحتلال، شمال ضاحية الطيرة - رام الله.
كان في مقدورنا ألا نُجازف بسلوك “طريق التفافي” هو الطريق الغربي المُؤدّي لمستوطنة «بيت إيل»، فنوفّر على أعيننا رؤية ذلك الحاجز الوحيد، الذي بدا جنوده مُتوتّري الأعصاب (فتّشوا السيّارة، مع ذلك، كأنّهم هُواة، حتى مقابل صرامة الحواجز السورية و»الكتائبية» خلال حرب لبنان).
في هذه المنطقة “باء” ذات “السيادة الأمنية” العليا الإسرائيلية، تنفّست القرى هواء حرّية المنطقة “ألف”، لكن ذلك “الطريق الالتفافي”، المفترض تصنيفه “جيم”، لا مثيل لجماله البرّي، وربما شعرنا أنّ هواءه ينتمي إلى تحوّل بعض المنطقتين “باء” و”جيم” إلى منطقة ذات رائحةٍ نفّاذة، هي رائحة الخوف.. سمّيْناها: هشام عبد الله، وأحمد سيف.. وأنا، المنطقة “خاء”، أو المنطقة “خوف”.
نقطة عسكرية، ومعسكر إسرائيلي مساحته دونمات قليلة، مُحاط كلّه بجدران اسمنتية، هي عبارة عن ألواحٍ بشكل حرف “T” مقلوباً، وبعلو 2,3م.. وكل ثلاثة ألواح مثقوبة بدائرة تستخدم للرماية، مع منظرتين عاليتين.
في ذلك الطريق البديع (تكثر به نباتات “الطيُّون” الدبقة ذات الأزهار الصفراء، دلالة على رطوبةِ قعر الوادي)، سألنا صبيّاً في العاشرة يمتطي بغلاً بلون “الكُمَيت” (مع الاعتذار لشاعرٍ قديم امتدح حصانه الكُمَيْتي)، إلى أيّ مدى يبقى هذا الالتفافي “آمناً”، ونحن نعرف أنّه يُؤدّي إلى مستوطنات: «دولب 1-2-3»، و»تلمون»، لأننا سلكناه من قبل.
البغل، الذي يبدو هجين فرس وأتان قويّتين، كان مُحمّلاً بعدّة شوالات من ثمار الزيتون، وإلى ذلك، يحمل طفلةً في السابعة تحتضن خصر شقيقها، بينما كفّاها الصغيرتان كأنّهما مصبوغتان بـ”الحنّاء” من قطاف الزيتون. اجتاز البغل بحمولته الثقيلة فراغات الدُشم بسهولة تامّة، واضطرّت السيّارة إلى الالتفاف و”التكويع” على طريقٍ التفافي.
من قعر الوادي، تبدو رام الله كأنّها مدينة “لاهاسا” عاصمة التيبت، المسمّاة لدى عُشّاقها الأوروبيين “سقف العالم”.
هناك ما يفعله أطفالنا، غير مراجدة الجنود بالحجارة. يقطفون الزيتون، وكلّ طفلٍ له همّة ثلاثةٍ من الكبار. غير أنّ طمأنينة الولد الصغير وشقيقته الصغرى (ذات شعرٍ ذهبي تماماً، حتى أنّ نهاياته تبدو بيضاء) تختلف عن عصبيّة الجُنود وتجهُّمهم المفهوم، فقد جئناهم من الخلف.
على مسيرة عشرات الأمتار من طريقٍ جبلي كأنّه الأفعى، كانت وجوه جنود “الأمن الوطني” منفرجة الأسارير. مجرّد حاجز يختلف و”أعشاش” رماية من أكياس الرمل. بالتأكيد، ففي الليل سينتمي الطريق كلّه إلى “الخوف”، والمنطقة بين الحاجزين، إلى مسافةٍ بين جنود - أعداء مسلّحين، لم يعودوا يشربون الشاي معاً، في “زيارات مُجاملة”!
منذ الانتفاضة، تشعر أنّ المنطقة “باء” صارت منطقة “جيم”..، على الأقل في قسمٍ كبير منها، ولو كان الأمر مُؤقّتاً. بالطبع، هذا انطباع خادع، لأنّ مَحاور طرقٍ أخرى في منطقة “باء” ازدادت الحواجز عليها.
كلّ يومٍ، أسأل الزميل زياد (يسكن حلحول) والزميل جمال (يسكن بيت لحم) عن عدد الحواجز الإسرائيلية حتى وصولهما مكاتب جريدة “الأيّام”، وهي تتراوح بين أربعة وتسعة.. حتى عن طريق “وادي النار” الشهير، الذي كان يخلو، في الأيّام العادية، من حاجزٍ واحد.
سألت صديقي الطبيب “أبو عبُّود” أن يرسم لي مسارَ طريق رام الله - نابلس والمستوطنات على جانبيه، ففعل ببساطة (بدءاً من رام الله): «بيت إيل»، «عوفرة»، «شيلو»، «عيلي»، «راحيل»، «تفوح»، «معسكر حوارة»، «بركة».
إنه طريق “مُبَرقش” بمناطق “ألف”، “باء”، “جيم”، وخبرة الناس جعلت اجتيازه بالسيّارة يستغرق ساعةً ونصف السّاعة، بعدما كان يستغرق ثلاث ساعاتٍ (في الأحوال العادية ثُلثي السّاعة).
لو سألت مستوطناً، أو جندياً إسرائيلياً أن يرسم طريق نابلس - رام الله، على أن يضع أسماء القرى الفلسطينية، فعلى الأغلب لن ينجح في اجتياز الامتحان.
هناك دليل الطرق، وهناك سيكولوجية الطرق، وهناك “طرق التفافية” صارت مهجورة تماماً.. أمام المستوطنين لا أمام المواطنين. وتعبّر هذه المفارقة عن بعض وجوه عبثيّة المشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية، حتى أنّ “طريق الأنفاق”، أشهر الطرق الالتفافية على الإطلاق، شهد أعنف هجومٍ مسلّح فلسطيني، يوم الأربعاء الماضي، بعدما فرغ جنود إسرائيل من إحاطة مستوطنة “غيلو” بجدرانٍ اسمنتيّة تعزلها عن “بيت جالا”.
تشكّل المنطقة “باء” 27% من مساحة الضفة، ولكن طرقها الداخلية صارت تنتمي إمّا إلى المنطقة “ألف” الحرّة، أو إلى منطقة “خاء”، أي منطقة الخوف والحذر المتبادلين.. وهي “المجال الحيوي” للمنطقة “ألف” السيادية.
***
زهق الطفل “عبُّود” من نشرات الأخبار الصارمة على شاشة التلفاز، وهكذا، رتّب كميناً لوالده: هل تحب اليوم “إس” أو “أخ”، فاحتار الوالد، ثم اختار “إس”.
وهكذا فاز الطفل ببرنامج “كارتون” اسمه “Space Toon “ على حساب “أخبار” الذي يُفضّله والده.
حسن البطل