وليد محمود عبدالناصر - النجاح الإخباري - طالعنا الأخبار في شكل غير منقطع وبمعدل يومي تقريباً بأنباء كوارث طبيعية كثيرة ومتنوعة تحدث على امتداد أرجاء المعمورة، لا تفرق في ذلك بين بلد غني أو فقير أو مجتمع كثير العدد أو قليله، بل تشمل الجميع من دون استثناء ومن دون تمييز. وبرغم الإقرار بتنوع مظاهر هذه الكوارث، إلا أن المطالع لهذه الكوارث الطبيعية بصورة مستمرة والمتابع لإحداثياتهاعلى مدار السنين، بل والعقود، بشكل متواصل يكتشف بوضوح وبما لا يدع مجالاً للشك عدة أمور، أولها التزايد المطرد في عدد هذه الكوارث، وثانيها التنوع الكبير في أنواعها وتجلياتها واتساع نطاق هذا التنوع، وثالثها التضاعف الهائل وغير المسبوق في قوتها التدميرية، ومن ثم فيما ينتج عنها من خسائر وأضرار، سواء كانت بشرية، وهي الأهم بالتأكيد من وجهة النظر الإنسانية أو المجتمعية على حد سواء، أو خسائر وأضرار مادية أو معنوية، مباشرة أو غير مباشرة، خصوصاً ما تأتي به من دمار على الحالة العامة للعمران والبنية التحتية المرتبطة بها في البلدان والمناطق والمجتمعات التي تعرضت لتلك الكوارث، وذلك بالطبع بالإضافة إلى تأثيراتها السلبية وانعكاساتها الكارثية على حالة النمو الاقتصادي في بعض الحالات وعلى آفاق التنمية الشاملة من اقتصادية واجتماعية وبشرية وثقافية وتكنولوجية وعلمية في الكثير من الحالات.

وتحدث تلك التطورات في توقيت يتزامن بالتأكيد مع ما تشهده البشرية من تقدم غير مسبوق في حجمه وعمقه ومعدلات سرعته للتقدم العلمي والتكنولوجي عبر بوابات آليات الابتكار والإبداع والاختراعات التي باتت مجالاتها لا تعد ولا تحصي في عالمنا اليوم وباتت طفراتها نوعية وكمية معاً، كل منها أشبه بـ «القفزة الكبرى إلى الأمام»، إذا ما جاز لنا في هذا المقام اقتباس التعبير الشهير المنقول تاريخياً عن الزعيم الصيني الكبير الراحل «ماو زي دونج»، وإن كان ذلك في سياق موضوعي آخر، وصار هذا التقدم العلمي والبحثي والتكنولوجي ليس يومياً بل في كل لحظة تمر، برغم الإقرار بأنه غير موزع بمقدار من العدالة بين مناطق وبلدان العالم المختلفة، بل يتركز بشكل أساسي في عدد من البلدان والمجتمعات التي تشهد إما اقتصاديات متقدمة أو تلك البازغة. ويبرز ضمن العلوم والتكنولوجيات التي شهدت تقدماً هائلاً في الآونة الأخيرة تلك البحوث النظرية والتطبيقية المرتبطة بالقدرة على التنبؤ بالكوارث وأيضاً تلك المتصلة بكيفية تفادي، أو على الأقل التقليل من حجم، ما يتمخض عن تلك الكوارث من خسائر وأضرار بشرية أو مادية على حد سواء.

إلا أن المفارقة تتجلى في المقارنة غير المتوازنة بين هذا التزايد في حجم الكوارث الطبيعية ومداها وما تسببه من خسائر وأضرار من جهة وبين ارتفاع مستوى وتزايد معدلات تدفق وتدافع قاطرة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي في مجالات اتقاء هذه الكوارث أو التصدي لها أو تحجيم آثارها من جهة أخرى. ولا جدال في أنها مفارقة تستدعي الدهشة والاستغراب من النخبة من صناع القرار المثقفين والواعين بأحوال مجتمعاتهم وبتحولات العالم من حولهم، فما بالنا بحال البشر العاديين الذين تصيبهم هذه المفارقة بالذهول، ويدفع ذلك بعضهم إلى الإنصات، ثم ربما القبول والانقياد والانصياع، لطروحات لا تتصف بالكثير من الموضوعية وليس لها أساس ثابت من الصحة طبقاً للأدلة المستقاة من الواقع الإنساني المعيش، ومن ذلك مثلاً اعتبار البعض أن تعاظم تأثير هذه الكوارث الطبيعية هو عقاب من الخالق، أو لدى البعض من غير المؤمنين بوجود الله بأنه عقاب من الطبيعة، للبشر لأنهم لم يوظفوا تقدمهم العلمي والبحثي والتكنولوجي لما فيه صالح الإنسانية جمعاء، بل إن أغلبه موجه لغايات الدمار ولتدمير البيئة الطبيعية وموجه لخدمة مصالح القلة وانتفاعها عبر العالم. فمن الصحيح أن العديد من أوجه التقدم العلمي والتكنولوجي تم توجيهها مثلاً لتطوير أسلحة ذات قدرة تدميرية عالية على البشر والحجر على حد سواء، وهناك مثال أسلحة الدمار الشامل، وفي المقدمة منها بالطبع الأسلحة النووية، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن الكثير من أوجه البحث العلمي والتطوير التكنولوجي على مدار الغقود الماضية تصب لصالح محاولة إيجاد حلول مستدامة لمشكلات مزمنة واجهتها البشرية، وأخص بالذكر هنا ما يتصل بتطوير اللقاحات والمستحضرات والأدوية الطبية والتقدم في علاج العديد من الأمراض، وبعضها المزمن وبعضها الآخر المستعصي على العلاج منذ أزمنة بعيدة، ومنها بالطبع أمراض خطيرة تعصف بحياة البشر والأسر عبر العالم وتهدد بحصد المزيد من الضحايا في المستقبل.

إلا أن الوجه الآخر للرد على هذه المقولة يتكون من شقين، أما الشق الأول فهو ما يتصل بدور البشر، أو بمعنى أدق أفعالهم، في تردي النتائج المتمخضة عن بعض هذه الكوارث، بل وفي حدوثها أصلاً في المقام الأول، والمقصود هنا بالطبع هو بعض البشر وليس كلهم، بل ربما نقول القليل من البشر، المسؤولون عن ذلك التطور المأسوي في حالات الكوارث الطبيعية واستفحال مخاطرها. ويصدق في هذا أفعال قام بها البشر في السابق، وفي بعض الحالات لا يزالون يقومون بها في الحاضر، تضر بالطبيعة وتخل بقوانينها وبما يطلق عليه التوازن «الطبيعي»، كما أنها بالمنطق ذاته وعلى الأرضية ذاتها أفعال تطيح بجوهر البيئة الطبيعية المحيطة بحياة المحتمعات البشرية أو حتى تلك البعيدة نسبياً عن تلك الحياة ولكنها تؤثر فيها بأشكال وصور مختلفة غير مباشرة في الكثير من الأحوال. ويندرج في هذا السياق ممارسات سابقة مثل التفجيرات النووية تحت البحار والمحيطات، كما يندرج في ظلها، ممارسات ماضية ومستمرة في العديد من الحالات مثل تقطيع الأشجار على نطاق واسع، وهو الأمر الذي وصل في عدد لا بأس به من الأمثلة إلى إزالة العديد من الغابات بشكل كامل بشكل عشوائي وغير مدروس أو منظم بطريقة علمية وربما لأسباب تجارية بحتة ترتكز على معايير الربحية المادية وجني المكاسب المالية فقط دون غيرها، وهو الأمر الذي أخل بتوازنات الطبيعة وأدى إلى تأثيرات أضرت بالمناخ في ما عرف بظاهرة «تغير المناخ»، وهي الظاهرة التي كان أول من نبه إليها وحذر منها في سبعينات القرن العشرين، هو العالم المصري العربي الكبير الراحل الدكتور مصطفى طلبة، عندما كان يعمل مديراً عاماً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وووجه آنذاك انتقادات لاذعة من حكام وساسة كبار في بلدان صناعية متقدمة، وأثبتت وقائع التاريخ المتتالية لاحقاً أنه كان على حق وأنهم كانوا على خطأ إما لسوء نصيحة كبار مستشاريهم في هذا المجال أو لخدمة مصالح اقتصادية كبرى في بلدانهم.

أما الشق الثاني للرد، فهو أن التعامل البشري مع هذه الكوارث الطبيعية واتخاذ القرارات المتعلقة بكيفية التعامل مع المعلومات التي توفرها التكنولوجيا المتقدمة بشأن حدوث هذه الكوارث في المقام الأول وأحجامها وما يترتب عليها من خسائر وأضرار، كل ذلك في العديد من الأحيان لا يكون على المستوى المطلوب من الاحترافية أو السرعة أو الرؤية الشاملة للأحداث في مجملها وسياقها ودلالاتها المجتمعية، وينطبق الأمر نفسه على التعامل مع الكوارث فور وقوعها ومع ما تسببه من أضرار، وهنا أيضاً تبدو الإشكالية في القدرة على اتخاذ القرارات التي تجمع ما بين السرعة والدقة والاستناد إلى معطيات محددة يقينية أو نقترب من اليقين، الكثير منها أيضاً توفره أو تساهم في توفيره التكنولوجيات المتقدمة والمتطورة التي استجدت في هذا الميدان، بالإضافة إلى مصادر المعلومات المختلفة والمتنوعة الأخرى، وربما لو نجح، لكان قد جنب الكثير من الويلات ضمن إطار الآثار التدميرية لتلك الكوارث. ويندرج تحت هذا العنوان العام على سبيل المثال لا الحصر أيضاً قرارات تالية لحدوث الكوارث واتضاح الصورة الكاملة لآثارها التدميرية على الحياة البشرية وعلى الجوانب المادية من بنية تحتية وغيرها، ومن ذلك اتخاذ قرارات من جانب بعض الحكومات، سواء الحكومية أو المركزية، بإعادة إعمار مناطق دمرها زلزال أو تسونامي أو فيضان أو غير ذلك من الكوارث الطبيعية برغم العلم مسبقاً، بفعل التكنولوجيا المتوافرة الأكثر تقدماً، أن هذه المنطقة أو المناطق نفسها هي عرضة للتعرض لهذه الكارثة الطبيعية ذاتها في غضون مدة زمنية تالية طاولت أو قصرت، بالرغم مما تؤدي إليه عملية إعادة الإعمار تلك من تحمل ميزانيات الدول المعنية لموارد مادية ولوجستية وبشرية ضخمة تأتي في نهاية المطاف بشكل أساسي من عوائد تحصيل الضرائب أو غيرها من الرسوم من أبناء هذا الشعب المعني، كما تأتي على حساب احتياجات أخرى، من بينها توفير المأوى السكني البديل المناسب والإنساني والكريم والدائم لسكان تلك المناطق التي تتعرض باستمرار للكارثة ذاتها أو الكوارث الطبيعية بشكل متكرر.

وهكذا نرى أنه بينما للكوارث الطبيعية بالتأكيد خسائر وأضرار تسببها، وبينما تحفظنا في ما سبق على أي شروحات أو طروحات غير علمية أو موضوعية تسعى إلى تبرير تعاظم الكوارث الطبيعية على خلفية أنها عقاب إلهي، أو طبيعي، على سوء توظيف العلوم أو منتجات التكنولوجيا المتقدمة في غير مقاصدها الإنسانية المفترضة، فإننا طرحنا بالمقابل وجهين من أوجه نراها لأفعال بشرية إما تساهم في حدوث الكوارث الطبيعية أو في تعاظم آثارها التدميرية، أو تفشل في التحسب لتلك الكوارث مسبقاً أو التعامل معها فور وقوعها أو حتى التعامل مع ما تفرزه من واقع جديد في المجتمعات البشرية التي تعرضت لتلك الكوارث.

* كاتب مصري

عن الحياة اللندنية