د. برنارد سابيلا - النجاح الإخباري - تشير نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية الى ان الرئيس ترامب استطاع، رغم فوز منافسه بايدن ، بحصد اصوات ما يزيد على السبعين مليون ناخب وهو رقم اعلى من ذلك الذي حصل عليه الرئيس السابق اوباما حين فاز بالرئاسة للمرة الثانية في العام 2012. واذا كان ترامب سيغادر البيت الابيض مكرها فأن للغوغائية التي انتهجها في عهده جذورا ممتدة في ارجاء الولايات المتحدة ومن الصعب لبايدن ولمن سيأتي بعده تجاهلها. تجد الغوغائية تربة خصبة في اوساط الجماعات والجماهير التي تتمسك بأفكار واراء لاعقلانية تجعلها تتعامل مع الظروف المحيطة بها بطريقة انتقائية ولامنطقية. وهذه الجماعات، سواء في الولايات المتحدة او في غيرها من البلدان بحاجة لمن يقودها ويوهمها بأنه قادر لتحقيق تطلعاتها وللتأكيد على افكارها اللاعقلانية واللامنطقية. طبعا لا يندرج كل من صوت لترامب ضمن الجماعات الغوغائية. ومن صفات هذه الجماعات ايمانها بالتفوق العرقي وبان امريكا البيضاء هي الاصل وبأن عظمة امريكا ترتكز على مدى سيطرة العرق الابيض على مقاليد الحكم والنظم التي تؤثر على طبيعة المجتمع وعلاقات القوى السياسية والاقتصادية فيه. ويمكن ادراج بعض الجماعات المسيحية المتصهينة، وهي من المناصرين الرئيسيين لترامب ونهجه وتقدر اعدادها بما يزيد على الاربعين مليون، في الجماعات الغوغائية بمعتقداتها التي ترتكز حصرا على الايمان المطلق بالكتاب المقدس وبالتفسيرات لآياته عن نهاية العالم ودور اسرائيل الدولة في تسريع تحقيق النبوءات والرؤى الذي يحتوي عليها الكتاب المقدس.

هذه الجماعات الغوغائية كانت موجودة قبل ترامب وستبقى بعده. وقد برهن ترامب خلال فترة رئاسته بأنه الرئيس المنشود لقيادة هذه الجماعات واعطائها الزخم السياسي والاجتماعي التي يلبي تطلعاتها. ولم يكن ترامب يتصرف بحماقة حين لم ينتقد العنف الدي ارتكبته جماعات البيض المتطرفين في المدن والولايات المختلفة. ولم يبرر ترامب موقفه حين عجز بعد ادانة جريمة قتل جورج فلويد من العمل لتجاوز الانقسام الحاصل والعمل بمنهجية للتصدي للتمييز العنصري في انحاء الولايات المتحدة. واستعاض ترامب بدل هذا بدعم اجهزة ومسؤولي فرض القانون من شرطة وجيش في مواجهة المتظاهرين الذين اعربوا عن سخطهم جراء قتل فلويد بالاعتداء على تماثيل امريكيين رائدين ارتبط بعضهم في ما مضى بتجارة الرق والعبودية. ورأى المحللون موقف ترامب هذا على انه انحياز لطرف دون اخر وبفشله في لملة الصفوف وتوحيد الامة.

واذا كان ترامب قد رفع شعار "امريكا عظيمة مرة اخرى" في انتخابات عام 2016 فأنه لم يحقق هذا الوعد بالكامل وان كانت نسبة تقارب الخمسين بالمائة من الامريكيين قد اعربت عن رضاها بتحسن وضعها الاقتصادي اثناء فترة رئاسته. ولكن "عظمة" امريكا لا تتوقف عند جيوب الامريكيين. فصورة امريكا في اوروبا وفي معظم دول العالم قد تراجعت كثيرا وذلك لسياسة "امريكا اولا" والتي تبناها ترامب ودفعته لاتخاذ قرارات ادت لقطيعة مع حلفاء امريكا التقليديين في اوروبا وايضا للانسحاب من اتفاقيات دولية ومنظمات اممية مثل منظمة الصحة العالمية. كما وكان هناك استياء من ردة فعل ترامب وادارته تجاه محكمة الجنايات الدولية لعزمها التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في كل من افغانستان والاراضي الفلسطينية المحتلة.

ونجح ترامب في انتهاج خط سياسي معاد للحقوق الفلسطينية بشكل كامل وبضرب بعرض الحائط كل المواثيق والاتفاقات والقرارات الدولية المتعلقة بقضيتنا. وانقاد كليا لمستشارين تماهوا مع المواقف الصهيونية وشرعنوا التجاوزات والانتهاكات الاسرائيلية في الاراضي المحتلة دون وازع او ضمير. فمن قطع المساعدات للأونروا والسلطة الوطنية ونقل السفارة للقدس ولاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل واغلاق مكتب المنظمة في واشنطن الى صفقة القرن والتي وصفها الرئيس ابو مازن تصحيحا بصفعة القرن. وهناك شك بأن الجماعات الغوغائية التي تؤمن بالتفوق العرقي للجنس الابيض تهتم جديا بما يجري خارج الولايات المتحدة او بالقرارات التي اتخذتها ادارة ترامب بما يتعلق وقضيتنا الفلسطينية. او انها تهتم بعمليات التطبيع بين دول عربية واسرائيل والتي سعت ادارة ترامب جاهدة لا جرائها قبل الانتخابات الرئاسية الامريكية لتحسين فرص فوز ترامب فيها.

نجحت غوغائية ترامب السياسية في التأكيد على مواقف الجماعات التي انتهجت رؤى عرقية ودينية لا منطقية. وكان ترامب واثقا لأبعد الحدود بأن هذه الجماعات ستدعمه دون تردد لولاية رئاسية ثانية. ثم جاء فيروس الكورونا والذي اجتاح الولايات المتحدة بشراسة مخلفا موت ما يقرب من ربع مليون امريكي واصابة ما يزيد على العشرة ملايين. تعامل ترامب مع الفيروس بغوغائيته المعهودة وبشكل اعتبره ملايين الامريكيين باللامسوؤلية. ولم يلجأ ترامب لخبراء الصحة للتعامل مع انتشار الفيروس بل انه انتقد الذين يضعون الكمامات ووصف الفيروس على انه فيروسا عاديا مثل بقية الفيروسات. ولكن الثمن الذي دفعته مئات الالاف من العائلات كان باهظا مما اثر على مواقفها من اعادة انتخابه رئيسا. وساهمت تغريداته على تويتر واسلوبه المبتذل في التعامل مع قضايا ساخنة، سواء الداخلية منها او تلك المرتبطة بالعلاقات الخارجية، الى اثارة حفيظة قطاعات واسعة من الامريكيين الذين شعروا بأن ترامب قد اسأ لمنصب الرئاسة واضاع الهيبة والاحترام اللذين يتمتع بهما عادة.

ولكن هزيمة ترامب يجب الا تعطينا الانطباع الخاطئ بأن جمهور ترامب وتأثيراته ستختفي من النظام السياسي الامريكي. وستكون سنوات بايدن الاربع القادمة من السنوات الصعبة وبخاصة في محاولة رأب الصدع الداخلي والتعامل مع ملفات الكورونا والاقتصاد والرفاه الاجتماعي والصحة والتمييز العنصري وغيرها من الملفات التي تستوجب اعادة النظر في ما بعد رئاسة ترامب. وفي مجال العلاقات الخارجية سيعمل بايدن على اعادة اللحمة مع حلفائه الاوروبيين وسيعاود دراسة الملفات التي تتناول العلاقات الدولية مثل تلك مع الصين وكذلك ملفات المنظمات الاممية والاتفاقات التي انسحب منها ترامب او الغاها. وفي ما يتعلق والشرق الاوسط فأن بايدن قد لا يصر على ازدياد وتيرة التطبيع بين دول عربية واسرائيل كما كان يخطط له ترامب ولكنه سيشجع حتما التحركات التي تسعى للتقارب واقامة العلاقات. وفي المجال الفلسطيني فقد تعهد بايدن ونائب الرئيس كاميلا هاريس بإعادة المساهمة الامريكية لوكالة غوث اللاجئين وكذلك للسلطة الوطنية واعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن مع تبني مبدأ حل الدولتين للصراع الفلسطيني-الاسرائيلي.

ولكن يخطأ من يظن بأن بايدن سوف يتبنى الموقف الفلسطيني بالعمل على حل سياسي وفق خطوط الرابع من حزيران 1967. وان كنا نأمل بان يكون اقل انحيازا لإسرائيل ومخططاتها التوسعية والاستيطانية والتي تقلل من فرص اقامة دولة فلسطينية. ينبغي ان نأخذ بالحسبان امرين مهمين سيساعدان في تحقيق هدفنا بالتحرر من الاحتلال الاسرائيلي واقامة دولتنا الفلسطينية:

الاول، ضرورة الدخول في حوار مفتوح مع الادارة الامريكية القادمة وفق رؤية فلسطينية واضحة مع الاخذ بعين الاعتبار موازين القوى الاقليمية والدولية والمخططات الاسرائيلية التي تسعى لابتلاع الجزء الأكبر من اراضي الضفة الغربية.

اما الامر الثاني الذي يتوجب علينا اخذه بالحسبان فيتعلق بإمكانية عدم حصول اختراق سياسي بفعل مماطلة اسرائيل وغيرها من الامور. في هذه الحالة يجب الانتباه بأن فترة رئاسة بايدن قد تعقبها فترة يصل فيها غوغائي أخر لسدة الرئاسة الامريكية مما يعني فرض رؤية امريكية منحازة ومتطرفة على المنطقة وعلينا دون مراعاة لحقوقنا المشروعة.

وفي المحصلة النهائية يبقى الثقل علينا نحن في كيفية انتزاع التأييد الامريكي لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي واقامة دولتنا الفلسطينية العتيدة.

نقلا عن صحيفة القدس