رضوان زيادة - النجاح الإخباري - على مدى أسبوع كامل سيطر كتاب الصحافي المخضرم بوب وودوارد «الخوف: ترامب في البيت الأبيض» على نشرات الأخبار والصحف الأميركية، بل إن الرئيس ترامب نفسه زاد من شهرة الكتاب لأنه علق عليه عبر هجوم في ثلاثة من مؤتمراته الصحافية، وكتب أكثر من 7 تغريدات مهاجماً الكتاب على صفحته على تويتر، بل إنه طلب من كل الوزراء بمن فيهم وزير الخارجية ومدير مكتبه جون كيلي إصدار بيانات صحافية تكذب ما جاء في الكتاب على لسانهم، وأعاد الرئيس ترامب نشر هذه البيانات على حسابه على تويتر.

لماذا يحدث كتاب صحافي كل هذه الضجة في أميركا، على رغم أنه لم يأت بأي شيء جديد مختلف عما قام به الصحافي مايكل وولف «نار وغضب» فوصف الرئيس بالعشوائية وبذاءة اللسان والفوضى التي خلقها داخل البيت الأبيض، والعدائية التي يحملها الرئيس ترامب لموظفيه وهم يبادلونه بالمثل، والنرجسية النادرة التي يتحلى بها رئيس الولايات المتحدة، كلها صفات كان وولف قد أطلقها على ترامب، وبالتالي في الحقيقة لا يقدم الكتاب جديداً هذه المرة.

الجديد هو أن مؤلفه ذو صدقية من المستحيل أن يجاريه أحد بها، فهو ليس الصحافي الشهير الذي كشف فضيحة ووترغيت، وإنما هو الصحافي الذي كتب أكثر من 19 كتاباً منفرداً أو بمشاركة صحافيين آخرين، عن ستة رؤساء أميركيين من الرئيس نيكسون إلى الرئيس أوباما وآخرهم الرئيس ترامب، وصدقيته لا يمكن دحضها، لقد اشتغل على مدى أكثر من 4 عقود في صحيفة «واشنطن بوست»، وهو دائم الاستشهاد بمالك الصحيفة الذي يعتبره أستاذه في النشر بن برادلي.

كانت لي فرصة التعرف بوودوارد عن قرب عبر المشاركة في دورة مخصصة للصحافة الاستقصائية، وهو على مدى أكثر من 24 درساً راح يخبرنا عن خبرته الصحافية الاستثنائية، ومن الأشياء المذهلة أنه بلغ أكثر من ثمانين عاماً ولم يصوت لأي رئيس أميركي في تاريخه خوف أن يؤثر ذلك في مهنيته الصحافية، فهو لم يصوت لرئيس ديموقراطي أو جمهوري، كان دائم الإخلاص للسلطة الرابعة ومهنته وعمله فيها وبخاصة في الـ «واشنطن بوست».

القصة الأخرى التي أثارت إعجابي هو تفرغه الدائم للعمل الاستقصائي الطويل النفس، فهو يتفرغ شهوراً كاملة ربما تبلغ 10 أشهر من أجل الإعداد لكتابه الذي يستند فيه إلى مئات المقابلات مع الشخصيات التي تصنع الحدث ولا ينقل قيل عن قال، ويوثق كل ذلك ويحتفظ به إذا ما احتاج العودة إليه في يوم من الأيام، وبالتالي فعلى رغم أن ترامب اتهمه بأنه يختلق الروايات والقصص فإن وودوارد يحتفظ بالتسجيلات عن كل هذه المقابلات، وأعتقد إذا ما استمرت معركة ترامب ضده فإنه سيضطر لإخراج هذه التسجيلات كما حدث مع كثير من الموظفين الذين عملوا مع ترامب سابقاً وفصلهم ترامب عبر إهانتهم أو تكذيب روايتهم.

سئل مرة وودوارد عن أقوى التحقيقات الصحافية أو أكثرها تأثيراً فأشار كلما اقترب التحقيق من السلطة كلما كان أكثر حساسية، لأنه يفضح سوء استخدام هذه السلطة سواء أكانت سياسية أو دينية أو اجتماعية أو اقتصادية، ولذلك فهو يعتبر أن ووترغيت تعتبر النموذج الأقوى في تحدي الصحافي للسلطة السياسية عبر التحقيق في سوء استغلالها لمصالح شخصية أو لمصالح خاصة، ولذلك فدور الصحافي دوماً فضح هذه العلاقة التي تنشأ بين السلطة وما يدور حولها من قوة وبين تأثيرها في المجتمع، يجب على الصحافة أن تكشف هذه العلاقة وأن تفضحها لما فيه خير المجتمع وبما يحد من سوء استغلال السلطة التنفيذية لدورها في الحياة العامة.

جسد وودوارد رحلة البحث عن الحقيقة في كل كتبه عن الرؤساء السابقين، فكتب عن جورج بوش الابن ثلاثة كتب وعن أوباما كتابين، أثارت هذه الكتب ضجة محدودة حين صدورها، بل إن بوش وأوباما لم يعجبهما ما كتبه وودوارد تماماً عنهما، لكن رد فعل ترامب كان استثنائياً ومختلفاً تماماً كما ذكر في مقابلة له مع تلفزيون CBC، حيث أشار وودوارد إلى أن رد ترامب يكشف عملياً أن علاقته مع الحقيقة هي علاقة ملتبسة كي لا يقول أن ترامب يكذب دوماً.

كتاب وودوارد في النهاية يؤرخ فترة مهمة من السياسة الشعبوية في البيت الأبيض، وربما ستكون له تداعياته، خصوصاً لدى الحزب الجمهوري الذي يعرف تماماً صدقيته وشهرته، ولذلك فاستطلاعات الرئيس كشفت أن مؤيدي ترامب يصدقون وودوارد أكثر من تصديقهم لترامب نفسه.

يمكن القول ببساطة إن وودوارد أسقط نيكسون عبر كشفه فضيحة ووترغيت، وهو اليوم يكاد يسقط ترامب من مدينة الجنون في البيت البيض كما وصفها جون كيلي مدير مكتب ترامب ونقلها وودوارد في كتابه. فمدينة الجنون هذه ستكون لسقوطها تداعيات كبيرة ليس على السياسة الأميركية فحسب وإنما على مستقبل الحزب الجمهوري الذي على ما يبدو لن يكون سعيداً بنتائج الانتخابات النصفية المقبلة في تشرين الثاني (نوفمبر).

* كاتب سوري

عن الحياة اللندنية