حنين زعبي - النجاح الإخباري - لم يشهد التاريخ الحديث –بالاعتراف الشعبي والسياسي والأكاديمي- مثيلا للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ولا يعزى هذا التشخيص لمتانة العلاقات فقط، فهذا لا يعد استثناء في عرف الدبلوماسية العالمية، بل لكون تلك العلاقات، كما توصف، غير مشروطة من الجانب الأمريكي، أي غير مرتبطة بالمصالح الأمريكية نفسها، وذلك هو ما يعد استثناء . ففي الوقت الذي نعتقد فيه أن المصلحة القومية الأمريكية هي ما يحدد أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وأن تلك الأولويات متغيرة بتغير الخارطة السياسية، إلا أن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل، بقيت وفق هذه الرؤية، حجر الزاوية في سياسة الولايات المتحدة، إلى درجة أن اعتبرت إسرائيل ليست مصلحة أمريكية فقط، إنما جزءا من الأمن القومي الأمريكي.

ويشهد النقاش المعني ببحث "سر" العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، بعض التغييرات منذ حوالي عشر سنوات، عندما بدأ أدعاء "المصالح الاستراتيجية المتبادلة" بالاهتزاز، حيث بدا هذا الحلف غير المشروط، غير مبرر سياسيا، بالذات مع اعتقاد البعض في السنوات الأخيرة بأن إسرائيل باتت تشكل عبئا على الولايات المتحدة، وأن الأخيرة بدأت تدفع ثمن دعمها لإسرائيل، مستندين إلى ربط تلك العلاقة الخاصة بتنامي الإرهاب في العالم.

وظهرت بعض الأبحاث والاجتهادات التي تحاول البحث عن أسباب أخرى للالتزام الأمريكي غير المشروط للمصالح والتوجهات الإسرائيلية. وقد أثارت تلك النقاشات 3 أدعاءات ممكنة:

أولا: الادعاء الأخلاقي

يستند هذا الإدعاء على القيم الديمقراطية المشتركة للبلدين. يسقط الباحثون هذا الادعاء بسبب تورط إسرائيل المتواصل في ارتكاب جرائم حرب، وإن لم يعترف بها الخطاب السياسي الأمريكي كجرائم حرب. إلا أنهم يشيرون إلى تنامي شعور "عدم ارتياح" المؤسسة الأمريكية من تدهور الصورة "غير الجذابة" للأمريكيين الليبراليين، التي تظهر بها إٍسرائيل داخل الولايات المتحدة، وهم يعزون هذا التدهور إلى أمرين: تنامي قوة وتأثير الإعلام البديل، وتنامي قوة وتطرف اليمين الإسرائيلي.

وقد لعبت المعلومات حول موضوعين مركزيين، ألا وهما الحصار على غزة، والسياسات العنصرية المتنامية تجاه الفلسطينيين في الداخل، دورا كبيرا في خلخلة صورة إسرائيل، أما الحصار على غزة فقد خلخل صورة إسرائيل "كضحية"، وأما العنصرية تجاه الفلسطينيين في الداخل فقد خلخلت صورة إسرائيل ك"واحة للديمقراطية".

وظهر في الإعلام الرسمي الأمريكي نفسه، وإن بشكل خاطف تلك المعطيات التي تفيد أن نسبة الضحايا الفلسطينيين خلال العدوان على غزة تعادل 108 قتيل مقابل كل قتيل إسرائيلي. أما في الإعلام الأمريكي البديل فقد ظهرت بعض العناوين التي تفيد " هذه ليست حربا في مفهومنا، إنما مذبحة". ويسهل على كل من يريد البحث عن معلومات أن يجد معطيات حول 600,000 طن من الأنقاض (الركام الاسمنتي) تم إلقاءها بعد انتهاء العدوان.

أما حول اهتمام الإعلام الأمريكي بالفلسطينيين في الداخل فقد اختارت مجلة the New York Review of Books والتي تعتبر أكثر مجلة مرموقة "لنشر الفكر"، تصدر باللغة الإنجليزية (وليس في الولايات المتحدة فقط) أن تقدم مراجعة مطولة لكتاب The Failure of the American Jewish Establishment ل Peter Beinart أستاذ الصحافة والعلوم السياسية، لم يسبق للمواقع الرسمية الأمريكية أن عرفت مثيلا أو حتى ما يقربه في وصف القوانين والسياسات الإسرائيلية.

وتعتبر هذه العلانية لهذا النوع من النقد للقوانين والسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الداخل والتي وصفت باللاانسانية، والحديث الواضح عن مخططات الترانسفير وسحب الهوية وهدم البيوت وتصريحات إعدام أعضاء الكنيست العرب وقوانين منع لم الشمل وطرد أعضاء الكنيست من الكنيست، والنكبة، قفزة نوعية لإمكانية أن يتعاطى الفكر السياسي الأمريكي مع هذا النوع من الوصف لإسرائيل. مع ذلك علينا ألا ننسى أن هذا النقد الحاد مهما بلغت قساوته، يبقى مرتبطا في المفهوم الليبرالي الأمريكي المركزي ، باليمين الإسرائيلي وليس "بالنظام الصهيوني"، وهو القاسم المشترك بين "الصهيونية الليبرالية"، "الليبرالية الأوروبية" و"الفلسطينيين الليبراليين" لدينا في الداخل.

ثانيا: تأييد الرأي العام الأمريكي لإسرائيل

يسقط المحللون الأمريكيون هذا العامل أيضا، كالعامل الحاسم في بلورة السياسات الأمريكية تجاه إسرائيل، حيث لا يتعامل الأمريكيون مع هذه القضية كقضية حاسمة في قرار تصويتهم، كما أن المؤسسة الأمريكية هي التي تبلور الرأي العام الأمريكي بما يتعلق بمسألة الموقف مع القضية الفلسطينية، أكثر بكثير من التأثير في الاتجاه المعاكس، كما أن الاستطلاعات الأمريكية تشير إلى ازدياد التعاطف مع الفلسطينيين وليس مع الإسرائيليين. مع ذلك تبقى الفجوة كبيرة لصالح الأخيرة، حيث يبدي 54% من الأمريكيين تعاطفا مع إسرائيل، مقابل 19% مع الفلسطينيين، بارتفاع 5% عن استطلاعات أجريت فقط قبل 3 سنوات. وتزداد الفجوة بين مصوتي الحزب الجمهوري (75%-7%)، عنها بين مصوتي الحزب الديمقراطي (43%-29%). أما من يعرفون أنفسهم ك"مستقلين" فيبدون في الوسط (52%-19%)، فيما أظهر مصوتي ساندرز تعاطفا أكبر مع الفلسطينيين (33%-39%).

أما الفرق الأكبر في التأييد فهو بين الفئات العمرية المختلفة، الأمر الذي يشير –دون احتساب عوامل أخرى- إلى ترجيح احتمال استمرار التعاطف في الرأي العام الأمريكي مع الفلسطينيين.

ثالثا: قوة ونجاح اللوبي الصهيوني

يجمع من يطرح سؤال "غرابة" الدعم غير المشروط حتى بالمصالح الأمريكية، إلى قوة تأثير اللوبي الصهيوني.

ويدعي هذا التوجه، أنه في الوقت الذي لا يستطيع فيه اللوبي الصهيوني أن يقنع السياسيين الأمريكيين بالفائدة الاستراتيجية التي ستجنيها الولايات المتحدة جراء دعمها غير المشروط لإسرائيل (لأنه لا فائدة استراتيجية كهذه)، إلا أنه يستطيع أن يستبدل تلك الفائدة الاستراتيجية بفوائد أخرى فردية، أي أن يقنعهم هم السياسيين، بالفائدة التي سيجنونها إذا ما دعموا إسرائيل. أي ليست السياسة والمصالح الأمريكية هي من يربح من العلاقة، بل هم السياسيون الأفراد، وإذا لم يربح السياسيون الأفراد من دعمهم لإسرائيل، فإن اللوبي الصهيوني سيعمل على الأقل أن يخسروا في حال دعمهم للفلسطينيين. والخسارة تكون: أو بالأصوات، أو بالتمويل المالي، أو بتشويه السمعة التي تؤدي لأضرار لهم ولكل من يحيط بهم.

ويجد اللوبي الصهيوني أمامه 3أنواع من السياسيين الأمريكيين: أولئك الذين يميلون إلى دعم إسرائيل إما نتيجة عوامل دينية وإما نتيجة قناعات سياسية تقليدية، وإما نتيجة حملات واستهداف اللوبي المستمر لهم (مثلا: يقوم كل سيناتور، ليس حال تسلمه المنصب، بل حال معرفة نيته عن ترشيح نفسه، أي بكلمات أدق، كل مرشح لمنصب سيناتور أو رئيس بلدية لمدينة مركزية، باستلام ورقة موقف حول إسرائيل تطالبه بدعم إسرائيل مستعملة ادعاءات أخلاقية وسياسية ونفعية، ثم يقوم وفد من اللوبي بزيارته وبرسم بروفايل عنه وعن أقاربه ومعارفه وعن شبكة أعماله ومصالحه وعلاقاته، وذلك بغض النظر عن موقفه أو اهتمامه أو معرفته بالصراع)، وهؤلاء يخضعون لامتحان ايباك المستمر، بحيث تتعقب الأخيرة تصريحاتهم، وتمدهم بمكافآت دعم سياسي أو مالي، أو حتى معنوي، مجرد إعطائهم شهادة حسن سير وسلوك، تمكنهم من العمل بحرية دون خوف العواقب.

النوع الثاني، هم أولئك الذين لا يميلون إلى دعم إسرائيل، وقد تكون لهم مواقف نقدية تجاهها، ولكنهم يقررون عدم جهرهم بمواقفهم المؤيدة للفلسطينيين، بسبب تأثير الصوت اليهودي، أو تأثير المس بتمويل حملاتهم الانتخابية، أو التشهير بهم كلاساميين، وهنالك النوع الثالث، الذين لا يتأثرون بالصوت اليهودي بسبب نسبته المنخفضة، والذين لا يأخذون أو لا يهتمون بالدعم المالي للوبي الصهيوني، لكنهم مع ذلك يخافون من الجهر بمواقفهم بسبب تأثير ذلك على علاقتهم السياسية مع زملائهم ومع المجال السياسي العام المحيط بهم، حيث يجلب جهرهم بدعم الفلسطينيين ابتعاد زملائهم السياسيين عنهم وترددهم في دعم قوانين أو مبادرات سياسية محلية يأتون بها حتى لو لم يكن لها أي علاقة بإسرائيل.

التغييرات في الوعي الأمريكي المتعلق بنفوذ اللوبي الصهيوني

رغم قوة التأثير هذا للوبي الصهيوني، يشير جون ميرشمير الذي أصدر كتابه المثير للجدل حول اللوبي الصهيوني والسياسات الخارجية الأمريكية قبل 10 سنوات (2007)، أن ضغوطات اللوبي الإسرائيلي لم تقل، لكن ما تغير هو التفكير الأمريكي تجاه إسرائيل وتجاه اللوبي الصهيوني، خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو يصف هذا التغيير بأنه "تغييرا جديا"، ويحيل ذلك إلى 4 عوامل رئيسية:

1. التغييرات الداخلية التي تشهدها إسرائيل باتجاه تطرف اليمين والعداء السافر لمبادئ حقوق وكرامة الإنسان والديمقراطية والمساواة.

2. التغيير العدائي لإسرائيل تجاه منظمات التضامن الدولية وتجاه ناشطي المقاطعة في كل مكان، ومنع إسرائيل من دخول الالاف منهم سنويا، والاعتداءات الهمجية على من تسمح له بالدخول.

3. زيادة المعلومات حول إسرائيل وممارساتها تجاه الفلسطينيين التي باتت متوفرة عبر المواقع الاجتماعية. زيادة المعلومات لدى الأمريكيين تجاه عمل وتغلغل اللوبي الصهيوني في السياسات الأمريكية، رغم الجهود الذي يضعها هذا اللوبي لمنع أي نقاش حر في الإعلام حول إسرائيل أو حول خصوصية العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.

4. عنف اللوبي الصهيوني نفسه، وازدياد وسائل ضغطه عنفا وعدم امتناعه عن الاصطدام المباشر بأوباما شخصيا أو بإدارته.

وقد أدت تلك العوامل حسب ميرشمير إلى زيادة الصوت النقدي لبعض الشخصيات المهمة في الإعلام الأمريكي المركزي تجاه السياسات الإسرائيلية وتجاه سياسات اللوبي.

لكن ميرشمير يذهب إلى نقطة أبعد من تلك التي ذهب إليها بينارت بإحالة العداء الإسرائيلي للفلسطينيين ولمفاهيم كرامة الإنسان والعدالة إلى طبيعة الدولة نفسها، وليس إلى طبيعة الحكومة أو اليمين الذي تستند إليه هذه الحكومة. فهو يشير إلى أننا نتحدث عن نظام أبرتهايد، وليس فقط عن "تطرف يمين" أو "فاشي".

أما جون دوجارت محاضر القانون المعروف في جنوب أفريقيا، فقد صرح عبر الإعلام الأمريكي أن "الجرائم ضد الفلسطينيين هي أسوأ بما لا يقاس من الجرائم التي ارتكبت من قبل نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا".

وليس أقل أهمية من النقاش الذي تثيره إسرائيل واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة بشكل عام، هو "النقاش" الذي يثيره أولئك ضمن الأمريكيين اليهود تحديدا، أو ما يعرف بالمؤسسة الأمريكية اليهودية، ومؤشرات الانقسام الداخلي لأولئك، ومؤشرات ابتعاد أو على الأقل خفوت مشاعر التضامن والراحة تجاه إسرائيل، بالذات في أوساط الشباب الأمريكيين اليهود.

مهم جدا هنا، عم المطابقة ما بين اللوبي الصهيوني واليهود الأمريكيين، حيث تشير الاستطلاعات إلى أن ثلث الأمريكيين اليهود لا يكترثون كثيرا بإسرائيل، كما أن بعضهم لا يدعمون سياسات اللوبي الصهيوني، كما أن بعض الذين يدعمون اللوبي الصهيوني بل يشكلون جزءا منه هم من يعرفون بالمسيحيين الصهاينة، وهم أصلا ليسوا بيهود.

بالتالي هنالك شبه إجماع على أن سبب عنف ممارسات اللوبي الصهيوني الأمريكي يعود إلى تبني أنماط عمل إسرائيلية، وليس إلى تبني أنماط عمل أمريكية، وليس إلى تغير مواقف اليهود الأمريكيين.

وفي الوقت الذي يزيد فيه تأثير وعنف هذا اللوبي، ترفض الجامعة الأمريكية الوحيدة الممولة من قبل اليهود الأمريكيين، الاحتفاء بذكرى استقلال إسرائيل الستين. أما الفجوة بين الأمريكيين اليهود الملتزمين بدعم إسرائيل وأولئك الذين يرون التزامهم الأول لحقوق الإنسان، فهي آخذة بالازدياد.

تضامن دولي رغم فقدان رؤية استراتيجية فلسطينية دوليا

لن نملك استراتيجية وطنية دولية، ونحن لا نملكها محليا. لكن عدم تضامننا "الطبيعي" أسميه مع أنفسنا، أو أنماط التضامن الغريبة مع الذات، تلك التي تؤدي إلى استراتيجيات سياسية نسميها معنويا لكن اعتباطا استراتيجيات نضال –الاعتماد على المفاوضات مع الدولة، الاعتماد على الحوار مع "اليسار" رغم إدراكنا لوجود إجماع شبه فاشي- لا تستطيع الوقوف في وجه بعض الحقائق، منها أن "إسرائيل باتت تشكل عبئا أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا على كل شركة أو نقابة أو حتى معبد أو كنيسة تتعامل معها"، كما يقول أحد النشطاء الأمريكيين. ويستعرض هذا الناشط حقيقة قيام مجلس حقوق الإنسان النابع لمنظمة الأمم المتحدة الأسبوع الماضي بإرسال رسالة لنحو ٣٠٠ شركة عالمية منها نحو ٣٠ شركة أميركية يبلغها فيها باحتمال وضع أسمائها ضمن قائمة سوداء للشركات التي تنشط في مجالات تنتهك حقوق الإنسان، وذلك بسبب تعاونها الاقتصادي مع الاحتلال الاسرائيلي.

بالإضافة لذلك يشير بعض النشطاء إلى أنه "لم يعد بإمكان أي مسؤول إسرائيلي زيارة معظم الجامعات أو القاء محاضرة هناك، ومن قام بذلك خلال السنوات الخمس الماضية تعرض لحملات احتجاجية ينفذها طالب تلو الآخر على امتداد الوقت المخصص للمحاضرة فيما باتت منظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين تمد أفرعها في 280 جامعة أمريكية، وهي الآن تشكل أطرا لها في المدارس الثانوية".

وقد طالت أجواء التضامن تلك بعض الكنائس التي تبنت قرارات بعدم التعامل مع إسرائيل، وسحب استثماراتها من شركات تدر ربحا جراء تعاملها مع الاحتلال الإسرائيلي. ومن أكبر هذه الكنائس والكنيسة الميثودية، كنيسة بروتستانتية تقليدية (إنجليزية) ويبلغ عدد أتباعها نحو ثمانية ملايين أمريكي، والكنيسة المشيخية الأميركية (كنيسة بروتستانتية اسكتلندية)، يبلغ عدد أتباعها نحو مليونين أمريكي. وتعتبر تلك الكنيستين من الكنائس البروتستانية التقليدية السبع، الموجودة في الولايات المتحدة.

أما على مستوى النقابات فيشير بعض النشطاء إلى أن "هناك اتصالات متواصلة لتشكيل إطار نقابات أميركية من أجل العدالة في فلسطين، وهي ذات النقابات التي دعت أعضاءها لمنع تفريغ بضائع السفن الإسرائيلية في الموانئ الأميركية، ونجحت خلال الحرب الأخيرة على غزة بمنع تفريغ خمس سفن إسرائيلية تابعة لشركة تسيم".

ازدياد عنف اللوبي الصهيوني

بدأنا نشهد نتيجة لتبني توجهات فاشية في إسرائيل من جهة، ونتيجة لازدياد التضامن مع الفلسطينيين من جهة أخرى، تصاعدا في عنف اللوبي الصهيوني، وازدياد التغلغل الإسرائيلي فيه، فقد نجح اللوبي، بعد تشكيل ما يسمى بوزارة "الشؤون الاستراتيجية" في إسرائيل، في استصدار تشريعات من برلمانات 3 ولايات أميركية هي الينويز وانديانا وميرليند، تعاقب عن طريقها المؤسسات والنقابات والكنائس التي تقاطع إسرائيل، بحيث تضعها في قائمة سوداء، وتمنع عنها أي مساعدة حكومية. ويجري الآن العمل بكثافة إسرائيليل وعلى مستوى اللوبي، لاستصدار قانون مماثل من قبل الكونجرس الأميركي.

كما تم تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في الكونغرس، من قبل لجنتي، ما يسمى "بمكافحة الإرهاب"، ولجنة "التصدي لغسيل الأموال"، للتحقيق في مزاعم واتهامات ساقها خبراء صهاينة بحق أربعة ناشطين أمريكيين من أصول فلسطينية بتهم تمويل وإنشاء منظمات طلابية مناهضة لإسرائيل ومؤيدة للحق الفلسطيني. وألصقت بهم الانتماء لفصائل فلسطينية تعتبرها الخارجية الأميركية منظمات إرهابية، ولا زال التحقيق متواصلا مع الناشطين منذ بداية العام الماضي 2016.

وكجزء من قرار الحكومة الاستراتيجية زيادة الانفاق على الدعاية الإسرائيلية، فقد نفذت منظمة "قف معنا"، وهي جناح العلاقات العامة للوبي، عشرات ورشات العمل لتدريب طلاب وناشطين موالين لإسرائيل، على التصدي للحملات المؤيدة للشعب الفلسطيني.

التضامن مع الفلسطينيين، قضية خارجية؟

لقد أتت بعض نتائج ازدياد عنف اللوبي الصهيوني وتأثيره على التشريعات الأمريكية، بشكل مخالف مما يريده هذا اللوبي، وبصيغة تطابق المقولة "العملية نجحت، لكن المريض قد مات". فمن إحدى نتائج ازدياد نجاح هذا اللوبي في التأثير على المؤسسة الأمريكية (القوانين والتشريعات والمساعدات المالية)، هي بروزه كتهديد ضمن الحراك الأمريكي الداخلي، وليس بالضرورة ذاك المتضامن مع الفلسطينيين. أي تحول موضوع اللوبي الصهيوني ،من حراك حول ملف علاقات خارجية إلى قضية أمريكيةداخلية. حيث يرى الأمريكي (كما البريطاني وكما سواهما) أن اللوبي الصهيوني يتحول إلى تهديد لحرية التعبير الداخلية للبلد، وإلى قوة تلاحق العمل السياسي وحرية التعبير للأمريكيين. ويتوقف الأمريكي عن اقتصار رؤية الحراك الصهيوني كحراك يمس بالفلسطينيين ويبدأ في التعامل معه كلوبي يمس بحقوقه الشخصية كأمريكي.

وضمن حملات إسرائيل لإقرار قوانين من الكونغرس وبرلمانات الولايات، تدين وتجرم المؤسسات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، دخلت هيئات أميركية واتحادات محامين على خط المواجهة مع الحملة الإسرائيلية في واشنطن، ليس لكونها تدعم الحق الفلسطيني، ولكن لكونها ترفض المساس بالحريات المدنية التي يكفلها القانون الأميركي لجميع المواطنين.

وقد بات حراك التضامن في الولايات المتحدة يستخدم، في تسميات منظماته مصطلحات مشتقة من التاريخ الأمريكي نفسه، مثل مصطلح العدالة لفلسطين، على حساب المصطلحات السابقة، كالحرية لفلسطين، ويعكس ذلك من وجهة نظر بعض النشطاء " لكون مصطلح العدالة أقرب للعقل الأميركي وأكثر التصاقا بالوعي العام، فهو مشتق من حراك الحقوق المدنية للأفارقة الاميركان في ستينيات القرن الماضي". ويعكس مفهوم العدالة وفق هذا الناشط "بعدا داخليا تاريخيا أميركيا، يجعله أكثر سلاسة من طرح مصطلح الحرية لفلسطين الذي يفترض لايضاحه الدخول في معترك الرواية السياسية والدينية التاريخية للصراع العربي الاسرائيلي".

نحو سقوط براديغمة الصهيونية الليبرالية

لم تعد الصهيونية في الخطاب الأمريكي وضمن مشاعر الأمريكيين اليهود، على حد سواء، مقصورة على مفهوم واحد مبني على "تحرر اليهود" أو "حمايتهم" من جهة، وعلى مفهوم " احترام الإنسان" و"الديمقراطية" من جهة أخرى، فبعد عقود من هيمنة "الصهيونية الليبرالية الإنسانية" كالصورة الوحيدة الممكنة للصهيونية، بدأت تطفو على السطح صورة ممكنة أخرى، بل حتى صورة مهيمنة وصاعدة، لصهيونية تتغذى كما يقول بروف "يارون إزراحي" (محاضر في الجامعة العبرية) من "الذاكرة الطويلة للملاحقة، التطهير العرقي، والصراع المرير من أجل البقاء، مجال تغذية سوداوي، نازع الثقة عن كل من هو غير يهودي، ومؤمن فقط بالقوة والتضامن اليهوديين".

لقد طالبت المؤسسة الأمريكية اليهودية، كما يقول بيرنت، "يهود أمريكا بالتخلي عن ليبراليتهم عند التعاطي مع الصهيونية، لكن ما نجح في إسرائيل، يبدو أنه لن ينجح في أمريكا، فقد تبين للهم الآن بشكل صادم أن العديد من اليهود قرروا التخلي عن صهيونيتهم بدلا من ليبراليتهم".

لقد نجح هذا في أمريكا، لكنه لم ينجح هنا. لماذا؟ لأن نموذج المواطنة المتساوية، توفر أمام اليهودي الأمريكي، متمثلا في دولة ينص دستورها على تعريفها كدولة "لجميع المواطنين"، لكن هذا البديل لم يتوفر هنا. حتى ضحايا الصهيونية المباشرين، ما زالوا يتشككون في "جدوى" أو "عقلانية" طرح خطاب ديمقراطي مناهض لتعريف إسرائيل كدولة يهودية.

لقد آن الأوان، نحن فلسطينيي الداخل، لأن نأخذ مسؤوليتنا بإعطاء إمكانية لليهود الموجودين في بلادنا، بأن الانعتاق من عنصرية المشروع الصهيوني، والاستمرار في الحياة في هذا الوطن هي إمكانية واردة. هذا يحصل فقط إذا طرحنا بديلا حقيقيا للصهيونية، يعترف بحقوق اليهود أينما كانوا، ويرى في العملية المصطنعة لجلبهم وتركيزهم في رقعة واحدة من العالم، سلخا لهم عن نسيجهم الطبيعي التاريخي والثقافي في أوطانهم التي عايشوها طويلا.

وأخيرا، أعود هنا وأكرر ما قلته في مقالي في مجلة جدل، أيار 2017، (حول الانفصام بين المرحلة وبين أدائنا السياسي) أننا قد نكون بصدد اللحظة التاريخيّة الأكثر استيعاباً -وإن ﻟﻢ يكن ذاك احتضاناً- لفهم ما طرحناه خلال العقدين الماضيين من مشروع "دولة المواطنين"، وقد لا يوجد لحظة تاريخية أفضل من احتفال الفاشيةّ بنفسها في إسرائيل، واحتفائنا بعريها أمام العالم، لكي نطرح البديل الديمقراطي الأخلاقيّ الوحيد الممكن، ولكي نطرح حتمية صدام أي تعريف ديمقراطي مع تعريف الدولة ك"دولة يهودية".