الدكتور ناجي صادق شراب - النجاح الإخباري - استاذ علوم سياسية - غزة

لا يمكن القول حتى الان ان ما بات يعرف بصفقة القرن قد فشلت. فما زالت الجهود الأمريكية التي يقوم بها فريق العمل برئاسة جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي ترامب قائمة ومتواصلة ، ويقوم بجولات عديدة للمنطقة، وكان آخرها الشهر الماضي، واجتمع خلالها برؤساء عدد من الدول المعنية والمهمة في نجاح او فشل الصفقة بإستثناء الطرف الفلسطيني المستهدف المباشر من الصفقة.

وعلى الرغم من التصريحات والتوقعات المتدنية لكن هناك إصرارا غريب على الإستمرار في الوصول لصياغة نهائية للصفقة والإعلان عنها. وهنا وقبل الولوج لخيارات ما بعد الصفقة ،او خيارات الصفقة ان نحدد ما هية الفشل.

اولا من السابق الحديث ان الصفقة قد فشلت. الفشل له شكلان الأول ان تعلن الولايات المتحدة رسميا أنها قد فشلت في الوصول لصيغة توافقيه للصفقه ، وبالتالي تطوى الصفحة تماما. وهذا لم يحدث وأعتقد أنه مستبعد ، ففي هذه الحالة الفشل يقع على الجانب ألأمريكي ، وان فريق العمل رغم كل الجهود لم ينجح، بلغة الصفقات، هذا الإحتمال مستبعد.

الشكل الثاني للفشل ان يتم الإعلان عنها ولكنها تبقى حبيسة الإعلان ، وهذا الخيار أيضا في إعتقادي مستبعد، لأن الهدف من الصفقة ليس الفلسطينيين فقط بل أبعد و أوسع من ذلك على المستوى الإقليمي ، والتخوف هنا ان تتحول لصيغة مفاوضات إقليمية، وهذا إحتمال رغم الموقف الواضح والثابت للدول العربية.

ومن ناحية أخرى قد ينفذ الشق الإقتصادي منها والمتعلق بالحالة الإنسانية في غزة. مجرد الإعلان عن الصفقة يحمل الكثير من التداعيات السياسية وهذا ما ينبغي أن تستعد له السلطة الفلسطينية، وهو ما سيفرض عليها مسؤوليات كبيرة قد لا تقوى على مواجهتها، بل إن الإعلان وفي حال تضمنت الصفقة بعض النقاط الإيجابية أو المشجعة للتفاوض من شأنه ان يخلق حالة من الجدل والخلافات في التفسير والتحليل بين السلطة وعدد من الدول المعنية كمصر والأردن بشكل مباشر لما للدولتين من دور مباشر من ناحية ، وما للصفقة من تداعيات مباشرة عليهما.

والإعلان عن الصفقة سيعني من بين أمور عديدة نقل المواجهة بين الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية إلى مرحلة جديدة من المواجهة والتصعيد تصل لحد ممارسة ضغوطات إقتصادية ومالية ودبلوماسية لا تقوى عليها السلطة في ظل الإنقسام، وقد يترتب عليها العمل على إنهيار السلطة وإستبدال القيادة الفلسطينية برئاسة الرئيس محمود عباس بقيادة أخرى.

وفي ظل هذه الإحتمالات ستخرج إسرائيل المنتصرة والرابحة من الصفقة مرتين ، الأولى في مضمون الصفقة وما تطالب به من حلول، والثانية برفع أي مسؤولية عن إسرائيل في إفشال الصفقة ، ومن ثم الإستمرار في سياساتها الإستيطانية ، بل وشرعنة ما تقوم به .

ومما قد يترتب على الإعلان عن الصفقة إعادة بروز الحلول الإقليمية للقضية ، وبعبارة أخرى عودة الخيارين الأردني والمصري، ولكن في ظل معطيات سياسية جديدة ليس بمعنى الضم بل المشاركة والتبعية، تمهيداً للتسوية الإقليمية، وبالتالي يتحقق الهدف من الصفقة ، بتسوية القضية الفلسطينية والتخلص منها بتحويل حالة الإنقسام السياسي الفلسطيني إلى أحد مكونات الحل ، مكونات لتحويل غزة لنواة دولة فلسطينية مستقلة وهذا يتوافق ورؤية إسرائيل للدولة الفلسطينية في كينونة صغيرة بمساحة صغيرة وعدد سكان كثيف وإعادة تأهيل لحماس سياسيا ، واستعباد الدولة عن الضفة الغربية المنطقة القلب والأساس لإسرائيل وللفلسطينيين.

في ظل هذا الفهم للصفقة وآلياتها يبرز السؤال حول كيف ستتعامل السلطة مع صفقة قد يتم الإعلان والإفصاح عنها ، ودعوتها للتفاوض بشأنها؟

الخيارات والإحتمالات هنا كثيرة وقبل الحديث عن الخيارات المتاحة والممكنة أمام السلطة لا بد من الإشارة إلى المحددات والقيود التي تفرض نفسها على الخيار الأفضل والأكثر واقعية، وعناصر القوة التي تسمح بتبنى خيار من عدمه.

بيئة ومحددات الخيارات الفلسطينية:

ولنبدأ بالمحددات الداخلية او البيئية السياسية الفلسطينية الداخلية حيث ما زال الإنقسام المحدد الرئيس الذي يجهض اي خيارات وقرارات سياسية إيجابية، وفي الوقت ذاته هناك توافق كامل على رفض الصفقة والدعم الشعبي واضح وراء قرار الرئيس، وهذا عنصر قوة ويمنح الشرعية لقرار الرئيس ويقوي السلطة في التعامل مع الصفقة.

ومن العناصر السلبية الكابحة ضعف عناصر القوة المتاحة وخصوصا القوة الإقتصادية والمالية وإعتماد الموازنة الفلسطينية على الدعم والمنح الخارجية، والعبء الإداري والبيروقراطي والمؤسسات التي بنتها السلطة.

كل هذه المحددات تدفع في التوجه نحو القرار العقلاني ، والتريث في التعامل مع الصفقة في حال إعلانها.

البيئة السياسية الفلسطينية كابحة مجهضة في الوقت ذاته، ونضيف لذلك أمرين الأول خيار السلطة الإستراتيجية التفاوض والسلام والشرعية الدولية، والخيار الأخير تواجهه الكثير من المعيقات ونتائجه بعيده المدى ، مرتبطة بالبنية الدولية الحالية.

أما المحددات الإسرائيلية وتلعب دورا سلبياً وضاغطاً على السلطة في اكثر من جانب ، من ناحية تتحكم في قرار الإنقسام، وفي التحكم في الموارد المالية والإقتصادية ، والسيطرة على الأرض ، وفرض خيار غزة بالإنسحاب الأحادي ، والخيار العسكرة أيضا غير مستبعد ، لكن في الوقت ذاته تدرك إسرائيل ان السلطة قد حققت إنجازات أمنية قوية، ولا يمكن تجاهل تداعيات إستبدال السلطة وإنهيارها، وتدرك أيضا ان مفتاح السلام والدخول للمنطقة العربية او السلام الإقليمية في يد السلطة وصعوبة إيجاد قيادة سياسية بوزن الرئيس لما يتمتع به من شرعية تاريخية وثورية وسياسية.، وهذا عامل يقوي ويدعم موقف السلطة وقرارها.

والمحددات الثلاث الإقليمية العربية وهنا التخوفات ، والتنافس والتعارض في المواقف، وعلى الرغم من التراجع وإنشغال الدول العربية في مشاكلها الداخلية وتثبيت الحكم، والتحالفات مع الولايات المتحدة، لكن لا يمكن للدول العربية أن تقفز عن المبادرة العربية، وأن تقفز على الموقف الفلسطيني ، وظهر هذا الموقف في الزيارة الأخيرة للمبعوث الاميركي للمنطقة، وسمع بوضوح أن لا بديل للدولة الفلسطينية، وهذه نقطة قوة في الجانب الفلسطيني ، فالأردن يرفض فكرة الدولة البديل، ومصر لن تسمح بقيام دولة مستقلة في غزة بحكم حماس.

وتساهم محددات البيئة الدولية بدور هام وضاغط يعمل لصالح الموقف الفلسطيني، وهنا يمكن القول أن الولايات المتحدة لم تعد الدولة الأحادية الوحيدة المتحكمة في القرار الدولي ،وسط المناقشة ومنافساتها مع روسيا القوة الطامحهة لدورها في الريادة ، والحرب التجارية مع أوروبا، وصعود دور الدول الإقليمية مثل الهند وتركيا وإيران ودورها في كبح الدور الأمريكي، والإدراك ان القضية الفلسطينية هي المفتاح لحل العديد من صراعات المنطقة ،ولا شك التواجد الفلسطيني في المنظمات الدولية، وزيادة التوجه نحو مقاطعة إسرائيل، وبداية الإنتقاد لسلوكها كدولة إحتلال، يعني ان البيئة الدولية بشكل عام لن تفرض قرارا على السلطة، وخصوصا ان الرئيس تحكمه علاقات شخصية وقوية مع عدد كبير من رؤساء الدول.

أهمية هذا المحددات الدولية انها لن تتبنى وجهة النظر الأحادية الأمريكية، وهذا يعمل في الصالح الفلسطيني. نتيجة هذه المحددات الداخلية والإقليمية والدولية انها قد تفرض على الإدارة الأمريكية مراجعة مضمون صفقتها ، ومراعاة اكثر للمطالب الفلسطينية والعربية، ولكن في الوقت ذاته لن تتجاهل بعض المطالب الإسرائيلية، وخصوصا في الجانب الأمني والحدودي.

وما ينبغي ان تدركه السلطة الفلسطينية وتتحسب له ان الصفقة وحتى بعد مراجعتها تتضمن قدرا من التنازل على الطرفين ، وقد يكون المطلوب فلسطينيا اكثر، وهنا نقطة إيجابية تعمل لصالح السلطة ان المطلوب عربيا ينبغي ان ينعكس على الضغط إسرائيليا بالإستجابة أكبر لقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وهذا هو المطلب الفلسطيني الجوهري، فليس كل ما يطلب سيتحقق، المرونة في بعض المطالب ـ والتمسك والتصلب في الأخرى وخصوصا موضوع الدولة الفلسطينية والقدس عاصمتها:

الخيارات الفلسطينية المتاحة والممكنة:

أولا: خيار المقاطعة والرفض المطلق للصفقة بكل عناصرها. هذا الخيار له تبعات سياسية وإقتصادية أكبر من قدرات وإمكانات السلطة وقد يؤدي لإنهيارها، وقد تخرج السلطة الخاسر الاكبر، ولذلك لا انصح بهذا الخيار، وخصوصا في ظل خيار الإنقسام السياسي الفلسطيني.

هذا الخيار في حال فشل الإعلان عن الصفقة هو الخيار الأفضل للسلطة، لكن كما اشرنا قد يكون مستبعدا لأن الولايات المتحدة لن تتحمل الفشل، وتأكيدا لهذه الفرضية الإستمرار في الجهود لإكتمال الصفقة لحاجة في نفس يعقوب كما يقال.

هذا ما ينبغي ان تتهيأ له السلطة.

اما الخيار الثاني الرفض الجزئي والموافقة الجزئية، بمعنى الموافقة على بنود تخاطب بعضا من المطالب الفلسطينية، وهذا الخيار قد يتناقض مع موقف السلطة الآن الرافض قطعيا ليس فقط للصفقة بل للدور الأمريكي والتي ترى أنه غير مؤهل أخلاقيا وسياسيا للقيام بدور الوساطة فكيف يمكن التراجع والتعامل مع الصفقة من هذا المنظور؟

سيضع ذلك السلطة في موقف محرج وقد يفقدها مصداقية الموقف والقرار. وإن كان هذا الخيار يعتبر خيارا واقعيا، ويعطي السلطة فرصة عدم المواجهة، والهرب من مسؤولية إفشال اي جهود للتسوية، واهمية هذا الخيار أنه لا توجد اي مبادرات بديلة في هذه المرحلة، فلا توجد دولة مؤهلة للعب الدور الاميركي لا الأوروبي المنشغل بقضايا الهجرة والإرهاب والحرب التجارية مع الولايات المتحدة ، ولا روسيا المثقلة بإنغماسها في مشاكل المنطقة، وهذا له ثمنه السياسي الذي ينبغي دفعه للولايات المتحدة.

وفي رأيي الدور الروسي والأوروبي له حدود وهذا سيكون أحد اهم المحددات التي تحسم الخيارات الفلسطينية.

اما الخيار الثالث وهو إمتداد للخيار الثاني القبول المشروط والمقيد، والمطالبة بضمانات وتوسيع دور الأطراف الأخرى، والمطالبة بمناقشة الصفقة في ظل مؤتمر دولي، وفي إطار اللجنة الرباعية العربية، وان يكون القرار عربيا وليس فلسطينيا، هذا الخيار الأكثر واقعية، ويعطي السلطة مخرجا لأي تداعيات سلبية يمكن ان تترتب على إعلان الصفقة، واعتقد ان السلطة في اصعب حالاتها وفي وضع المأزق، وخصوصا ما يتعلق بمشاكل السلطة وإنتقالها والخلاف والرهان على ما مرحلة ما بعد الرئيس، ومحاولة تحميل الرئيس كل المسؤولية وانتظار لما قد تؤول له المنطقة والتحولات السياسية، ونموذج غزة مثال واضح.

ولا ننسى ان الخيارات الأخرى نتائجها بعيدة كخيار تفعيل الشرعية الدولية والإنضمام للمنظمات الدولية، فهذا الخيار لن ينهي الاحتلال الإسرائيلي، ولن يأتي بالدولة الفلسطينية.

الخاتمة والتوصيات:

في ضوء ما سبق من تحليل وخصوصا للمحددات التي تحدد خيارات السلطة، أولا البعد عن المواقف القطعية في التعامل مع الصفقة ، وخصوصا في حال الإعلان عنها، التريث في قراءتها.

ثانيا: اللجوء للخيار العربي بتفعيل دور اللجنة الرباعية العربية وان يكون القرار عربيا. دعم التنسيق والتشاور مع كل من مصر والأردن تحديدا لما للدولتين من دور مباشر، ولما للصفقة من تداعيات مباشرة عليهما، وكما جاء في صحيفة «هآرتس» حياة وموت الصفقة بيد مصر.

ثالثا : المطالبة بتوسيع الدور الدولي ممثلا في روسيا والإتحاد الأوروبي، وتفعيل الإطار الدولي في إطار مؤتمر دولي بإشراف أممي لمناقشة الصفقة وهل يمكن ان تكون صالحة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي وبالتالي العمل على تحويلها بعد مناقشتها لرؤية دولية تتوافق مع الموقف الفلسطيني. وهذه نقطة هامة أن تأتي المطالبة بأي تعديلات عربيا ودوليا. ورابعا المطالبة بموقف قاطع من إسرائيل والولايات المتحدة بالنسبة لموضوع الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، كمطلب أساس للفلسطينيين، والتمسك بحق الدولة الفلسطينية بمنح المواطنة الكاملة لكل مواطنيها وحق العيش فيها والإقامة فيها، وهنا أهمية العنصر السكاني في إدارة الصراع مستقبلا. وحرية ممارسة سلطاتها على الأرض.

اما بقية المطالب الأخرى يمكن إبداء المرونة السياسية بشأنها كالمسائل المتعلقة باللأمن والحدود وحتى اللاجئين. والمطالبة بتوفير الضمانات الإقليمية والدولية، وتحديد مرجعية دولية للصفقة ، بمعنى كيف نحول الصفقة من إطار أمريكي إلى إطار دولي حتى تتوفر لها عناصر النجاح.

ومن التوصيات الهامة ان مرحلة الدولة الفلسطينية بداية لنقل الصراع لمرحلة جديدة بآليات جديدة، وهذه مسألة مهمة لا ينبغي تجاهلها، والتذكير بأن قيام الدولة الفلسطينية الكاملة يعتبر إنجازا وثمنا سياسياً هاما لأنه يعني في الوقت ذاته تقليص لإسرائيل داخل حدود محددة. الدولة الفلسطينية بداية للحلول السياسية المستقبلية، من هنا اهمية التركيز على موضوع الدولة الفلسطينية كمطلب أساس، ويمثل الحد الادنى لا يمكن التنازل عنه، اي ربط الصفقة ومستقبلها بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، ممارسة لغة وإستراتيجية الصفقة بالصفقة.

ومن التوصيات التي أنصح بها ان الحل يعتبر خيارا إستراتيجيا، في ظل صعوبة الخيارات الأخرى كالمقاومة الشرعية الدولية.

ومن التوصيات الإستفادة من عنصر الوقت، فما زال الوقت في يد الفلسطينيين، فإذا كان هدف الصفقة ان هذا هو الوقت المناسب لتحقيق السلام والأمن الأميركي والإسرائيلي، وانه إذا لم يتحقق الآن، لن يتحقق في المستقبل، فينبغي إدراك أهمية هذا العنصر، إدراك أننا خسرنا أكثر من سبعين عاما من الزمن ولم ننجح في شراء الوقت.

هذا العنصر من أهم عناصر القوة في يد السلطة والرئيس ...وأخيرا كما يقال في السياسة الدبلوماسي إذا قال نعم فهو يعني لا وإذا قال لا فهو ليس ديبلوماسيا. التعامل مع الصفقة في حال الإعلان عنها ليس بالرفض المطلق بقدر الإستجابة المرنة المحمية بالموقف العربي والدولي وبالشرعية الدولية، والقدرة على التحمل ، وان المباراة صفرية، لن يخسر فيها الفلسطينيون، أما من سيخسر منهما الولايات المتحدة وإسرائيل.

[email protected]

عن القدس الفلسطينية