عبد السلام العابد - النجاح الإخباري -  (1) 
أنتَ الآن في الطائرة المحلقة فوق الصحراء العربية الوسيعة، على ارتفاع شاهق، ها أنت تعود مرة ثانية إلى مكان عملك في الخليج، بعد عودة قسرية إلى وطنك فلسطين، حيث شاركت في وداع أمك الحنون التي صعدت روحها إلى بارئها العظيم. كنتَ قد أفقتَ فجرا على رنين جرس الهاتف، ويا له من رنين يحمل الأخبار المؤلمة، إذا ما دعاك للرد في الزمن غير المناسب. 
أتاك الصوت متهدجا: الوالدة رحلت قبل لحظات..! قلت: انتظروني..فها أنا ذا قادم. 
حجزتَ في أول طائرة مغادرة، وعدتَ إلى بلدك، لتجد أهلك وأقاربك والناس كلهم بانتظارك. قبلتَ أمك الحنون، لأول مرة دون أن تشعر بك وتضمك، وتقول لك بصوتها الدافئ: الله يرضى عليك يا ابني!. آخر مرة سمعت هذه الجملة في المكالمة الأخيرة، وأيضا قبل عدة أيام من رحيلها، حينما كنتَ في إجازة استمرت شهرا، حيث أمضيت الجزء الأكبر من وقتك إلى جانبها، تتفقد أحوالها، وتطمئن على صحتها، وانتظام التزامها بتناول دوائها. 
ودعتها، وأنتَ مطمئن أنها راضية عنك وإخوتك وأخواتك.
قبل أن تودعها، وتسافر، كانت تطيل النظر إليك، واحتضنتك وغمرتك بقبلات المحبة والشوق، وقالت: سلمك الله...وسهل طريقك.. الله يرضى عليك ويوفقك...أنت وأسرتك وأخوتك وأخواتك.
الحمد لله..كانت تتمنى أن يرحمها المولى عز وجل، إذا جاء أجلها وهي تمشي على الأرض، وتؤدي أعمالها بنفسها.كانت تخشى الوصول إلى مرحلة الشيخوخة والعجز. صلينا على جثمانها الطاهر، وودعناها وواريناها ثرى فلسطين الطهور. وتمنينا لها المغفرة والرحمة وجنات النعيم.
وداعا أمي...وشكرا لكم أيها الأحبة والأعزاء وأبناء الوطن...فقد كان لوقوفكم معنا أعظم الأثر، في تخفيف المصاب الأليم الذي المّ بنا.
تتذكر الأيام والليالي في طفولتك وشبابك، عندما كنت في كنف أسرتك وأمك وأبيك....وتسترسل في ذكريات الماضي الذي لن يعود.
 (2) 
فقد...
نظر الشاب في وجه العجوز، فرأى الدموع تترقرق في عينيه، فسأله: ما لي أراك حزينا؟.اعرف انك جبل شامخ لا تهزك الرياح، ولا تعبأ بالعاصفات، وتواجه الحياة برجولة وثبات!!. 
نظر إليه العجوز بوجهه المتغضن وقال: يا بني، ستتذكر كلماتي عندما تكبر، وتعلمك التجارب. إنّ من أكبر المصائب في الحياة فقدان الأحبة والأعزاء...هؤلاء الذين يمضي الإنسان معهم أيام العمر، بأفراحها وأحزانها وذكرياتها. ما مرّ بي يا بني ليس قليلا.انّه قاسٍ ومؤلم حقا. لقد فقدت رفيقة عمري، وصديقة روحي، ومنبع فرحي وسعادتي....زوجتي التي عشت معها ثلاثة وخمسين عاما وستة أشهر، وسبعة عشر يوما....وفجأة...غابت..ورحلت...وبقيت وحدي، أواجه وعورة الدرب ووحشة الحياة....!!!!. 
 (3) 
قبيل الغروب، كنت أراها جالسة أمام بيتها، مع مجموعة من جاراتها اللواتي في مثل سنّها، يتحدثنَ عن الأزواج والأولاد الذين أمعنوا في الغياب الطويل، والفراق الموجع. وكن يسترجعنَ ذكرياتِ الطفولة، والشباب والكهولة، ومواسمَ القمح والحصاد والبيادر.هذا المساء، وفي المساءات القادمة، لن تتمكن الصديقاتُ من الاستمتاع بحديثها العذب، وجلساتها الأنيسة. فقد رحلت قبيل الفجر، وتركت في القلوب ألما وحزنا، ودفقاتٍ من الشوقِ والحنين.