وكالات - النجاح الإخباري - ارتديت مئزري الأبيض بسرعة، وأخذت مكاني بجانب طبيبة الأمراض العقلية، التي شاركتها العمل لمدة محددة في مستشفى. الطارق الأول لباب المكتب لم يكن مريضا، كانت طبيبة عامة جاءت لتأخذ لأحد المرضى موعدا مستعجلا، وآثار القلق بادية على وجهها. كلّ ما فهمناه أن المريض امرأة مسنّة، نجت الليلة الماضية من محاولة انتحار في المستشفى، وبدا لها أنّ الحالة بحاجة ماسة إلى متابعة نفسية، فالأمر خرج عن سيطرتها، وهي عاجزة عن التصرّف. 

بعد دقائق عادت الطبيبة ومعها امرأة تمشي بخطى متثاقلة، ترتعش لحد جعلها غير قادرة على التحكم في مشيتها، امرأة اشتعل رأسها شيبا، ووجهها المصفّر حزنا وهمّا. جلست أمامنا وهي تحاول استجماع أنفاسها، وبلغة فرنسية أخذت تحكي عن حالتها، وتعبها، وآلامها، ثمّ استرسلت في الحديث عن حياتها، وأوجاعها الشخصية، كأنّها لم تكن بحاجة إلى أسئلة توجهها بقدر ما كانت بحاجة إلى من ينصت إليها.

حديثها كان مرتكزا على أشياء كالوحدة، والشعور بفقدان القيمة، وانخفاض تقدير الذات، وانتهاء الدور والمهمة في الحياة. حديث عن فراغ تملكها وتسبّب لها في اكتئاب لدرجة جعلتها تقدم على الانتحار، فالحياة بالنسبة لها بلا طعم وبلا قيمة وبلا هدف، حياة تفتقد جميع المعاني التي تشجعها على البقاء، حتى إنّها لم تعد تقوى على البكاء.

لقد انتهت صلاحيتها، لم تعد أمّا؛ فكلّ الأطفال كبروا وتزوّجوا ورحلوا بما فيهم آخر العنقود، حلّق بعيدا عن عشّها إلى حيث يمكنه بناء مستقبل أجمل في إحدى الجامعات الأمريكية، ومع ذلك لا تزال في حيرة وقلق عليه رغم ما تعانيه من آلام. لقد كان أقرب أبنائها إلى قلبها وملأ كلّ الفراغ الذي تركه زوجها بعد وفاته. هي اليوم تشعر بالحرمان والفقدان والقلق، هي اليوم تشعر أنّ أسرتها ترفضها والحياة تلفظها! فما عساها تفعل؟ هي لم تعد تتحمّل! اكتئاب لم يكن ليحدث لولا ذلك الحرمان.

تخيّل أن تحمل جنينا في بطنك تسعة أشهر، تجسّ نبض قلبه وتراه فيك يتكوّر، تحبّه وتحتويه وترعاه حتى قبل أن تراه، تتحمّل لأجله جميع أنواع الوجع، تتقلب معه ذات اليمين وذات الشمال، تقضي الليل والنهار وأنت تسبح في أحلام اليقظة، وأنت تنتظر تلك اللحظة التي تملأ فيها به حضنك، تستقبله بالحفلات، تتعقّب جميع أطوار نموّه، تجوع ليأكل، تعرى لتكسيه، تبرد لتدفئه، تسهر لينام، تمرض ليشفى، تنزع منك لتضيف إليه، تأخذ منك لتعطيه، تخفي انكسارك لتقوّيه، تشقى ليهنأ، تبني ليسكن، ليحيا، ليعيش، ليتعلّم، لينجح، بل ليستقل ويسعد، وفي لحظة يبتعد، ويقوى جناحه فيطير. ويعود كلّ شيء إلى الوراء عداك أنت! تعود مع الأشياء إلى الصفر؛ نعم، لكن هيهات أن تعود إلى مجراك الأول إلّا وهي معك، تحاصرك وتضايقك في ذلك السنّ.

في العديد من الأماكن من هذا العالم تظهر أعراض الحزن، وتزحف على مرّ الأيام في بيت لم يعد يحظى إلّا بدموع وتنهيدات وتأوهات مشحونة بالألم، مباشرة بعد أن تسكت آلات الموسيقى ويغادر المدعوون وتطوى التهاني، ويتزوّج الأبناء وتدشّن بيوت زوجية، وتدخل أخرى عالم الصمت الحزين، فبعض النهايات تفضي إلى البداية، ويا لها من بداية تلك التي يجد فيها الوالدان نفسيهما أمام شريط من الذكريات أشبه بالسراب يعين الشيخوخة عليهما، أمام جدران من الصور، وأسماء يردّها الصدى ورهن وسائل تواصل إلكترونية حتى يغدو الاكتئاب رفيقا لوحدتهما تلك وعنوانا لعشّهما الفارغ، فهل سبق وأن سمعت بمتلازمة العشّ الفارغ التي قد تصيب والديك دون علمك؟

ما هي متلازمة العش الفارغ؟

متلازمة العش الفارغ Empty Nest Syndrome: هي الشعور بالحزن، والوحدة، والاكتئاب والفقدان، والحرمان، الذي يصيب الوالدين أو أحدهما نتيجة مغادرة أبنائهم البيت لأول مرة لأسباب متعلقة بالزواج أو الدراسة أو العمل، وعادة ما يشعران بها بعد فراق الطفل الأخير نظرا للفراغ الكبير الذي يلحقه بحياتهما بعد أن كان يشغل المكان الذي تركه إخوته، وهي تكثر لدى الأمهات الماكثات في البيت، حيث يصعب عليهن مواجهة الموقف والتعود على الحياة بدون أبناء. وتساعد هذه المتلازمة على تفجير بعض الأمراض الجسدية الناتجة عن الأزمات النفسية التي يدخل فيها الوالدان، فضلا عن اضطراب في علاقتهم بالآخرين وهناك من تؤدي به إلى الإدمان على المشروبات الكحولية، وغيرها من المواد المضرة بالصحة.

أعراض متلازمة العش الفارغ:

الحزن: يعدّ الحزن من أكثر أعراض متلازمة العش الفارغ لدى الآباء، فهم غير قادرين على التأقلم مع التغيرات التي حلّت بحياتهم بعد خلوّ البيت من الأبناء، وعاجزين على مقاومة الشوق الشديد والدائم الذي لا مفرّ منه.

الاكتئاب: من الصعب على البعض الخروج من دوامة الحزن المتكرر، والتشاؤم، والحداد الذي تصاحبه نوبات من البكاء، وعدم الرضا بالوضع الجديد، مع غياب السند والدعم النفسي المدرك، ما يجعلهم عاجزين عن التحكم في المشاعر السلبية، ومما يجعل الحياة في أعينهم بلا معنى، وبلا هدف، فضلا عن النفور من علاقاتهم، ومن والأنشطة اليومية التي اعتادوا القيام بها ودخولهم في عزلة.

القلق: يأخذ القلق هنا شقين، فهو خوف وعدم ارتياح من الوضع الذي آل إليه الآباء بعد الفراغ الذي خلّفه الأبناء، وخوف وحيرة وقلق على الأبناء، فتجد الأم على سبيل المثال تفكّر طوال اليوم في ابنها إن كان سعيدا أو محبطا، مما يتسبب لها في الضغط والإرهاق والتعب، واضطرابات النوم، والشهية، والزيادة في الوزن أو فقدانه.

الشعور بالوحدة: لا شيء يكسر قلوب الآباء مع تقدم السنّ كالشعور بالوحدة، وفقدان الامتيازات الأبوية التي حظوا بها في شبابهم، حيث يصبح البيت في نظرهم أشبه بالمقبرة، وتتحول كل الذكريات التي عاشوها مع أبنائهم فيه إلى لحظات ألم تشعرهم أنهم منعزلين عن العالم، وليس هناك من يعينهم على الدنيا من بعد أبنائهم الغائبين، وأنهم ليسوا بذلك القدر من الأهمية التي كانوا عليها سابقا، مما يؤدي بهم إلى انخفاض تقدير الذات.

فقدان الهدف: وصول الأبناء إلى مرحلة الرشد واستقلالهم عن البيت الأبوي يشعر الآباء بانتهاء صلاحيتهم، ومهامهم حيث تصبح الحياة في نظرهم بلا معنى، ويحدث في داخلهم فجوة عميقة، وجرحا يجعلهم يشعرون بالرفض، والاغتراب، ويخلق لهم عدم الرغبة في الاستمرار. 

ظهور بعض الأمراض الجسدية: تسهم الأزمات النفسية التي يعاني منها الآباء جرّاء الحزن والقلق، والاكتئاب الناتج عن متلازمة العش الفارغ في تفجير مجموعة من الأمراض النفسجسدية، كضغط الدم، وارتفاع معدلات السكري أو انخفاضه، بل يمكن أن يتطور الوضع ليتسبب في اضطرابات قلبية، وأمراض معدية بسبب الانفعالات السلبية، وتغير العادات الغذائية.

الخلافات الزوجية: قد يؤدي الشعور بالحرمان من الأبناء ببعض الأزواج إلى نقل المشاعر السلبية إلى بعضهم البعض، والتعبير عن الرفض، والاشتياق لاشعوريا من خلال الخلافات.

أسباب متلازمة العش الفارغ:

يمكن تلخيص أسباب متلازمة العش الفارغ فيما يلي:

- علاقة الحب والاحتواء القوية التي تربط الآباء بأبنائهم، فالحياة في محيط مفعم بالسلام والمودة يجعل غياب أحد الطرفين عن الآخر في غاية الصعوبة ولا يحتمل.

- وفاة أحد الزوجين الذي يترك فراغا كبيرا في قلب وحياة الآخر، ويجعله غير قادر على التكيف مع الفقد، واختباره مجددا ولو في شكل غياب.

- العلاقات الزوجية المضطربة كالطلاق، والطلاق العاطفي الذي يجعل أحد الزوجين يعوّض الفقر العاطفي في أبنائه، فيحدث التعلق كعملية تحويل كاملة إلى الأبناء، الأمر الذي يجعل استقلالهم بمثابة انسحاب من العلاقة، وتترتب عنه أزمات نفسية للأب أو الأم.

- وصول الأم إلى سنّ اليأس وما يرافقه من تغيرات نفسية.

- الخوف من فقدان السند.

- انعدام السند الاجتماعي من أطراف أخرى كالأقارب، مما يفتح الطريق نحو المشاكل النفسية التي يصعب فيما بعد التغلب عليها.

- التقاعد والتركيز على الأزمات العاطفية التي ترافقه، حيث يصبح الفرد هشّا وغير قادر على تحمّل المزيد من المعاناة، خاصة وأن مرحلة التقاعد عادة ما تمهّد للشيخوخة وما يصاحبها من مشاعر قلق الموت.

- عدم وجود نشاطات تشغل الآباء عن التفكير في أبنائهم الغائبين، فتشتّت انتباههم لذلك الفراغ، وتعوّضهم عن الحرمان النفسي. 

- عدم تهيئة الأبناء لتحمل المسؤولية سواء كانت زوجية، أو مسؤولية الرعاية الذاتية بالنسبة للأبناء الذين انفصلوا عن البيت الأبوي لاستكمال متطلبات دراسية أو العمل، ما يجعل الآباء في حيرة وقلق دائم عليهم وحزن مستمر بسبب الشعور بالذنب.

- عدم وجود وسائل تمكن الآباء من التواصل مع أبنائهم.

- عدم اهتمام الأبناء بآبائهم من خلال تفقدهم، والتعبير عن اشتياقهم المتبادل، ما يجعل الآباء يقرؤون هذا السلوك كنوع من الجفاء والنكران.

- نقل الأبناء مشاكلهم الشخصية لآبائهم باستمرار منذ أول انفصال لهم عن البيت الأبوي، الأمر الذي يجعل كلّا من الأم والأب في قلق دائم.

علاج متلازمة العش الفارغ:

- إحياء العلاقة الزوجية من جديد والعودة إلى سابق العهد كزوجين شابين. وقد يساعد التكفل بطفل أو ضيافة طالب جامعي أجنبي في تخفيف الألم، خاصة إذا كان الوالدان قادرين على ذلك.

- التواصل المستمر مع الأبناء من خلال وسائل الاتصال المتطورة التي تتيح لهم البقاء على تواصل؛ صوتا وصورة.

- زيارات الأبناء المتكررة للبيت الأبوي، وتخصيص أوقات معينة وكافية للوالدين، فترقب الزيارة بحدّ ذاته علاج.

- العيش مع الآباء في بيت واحد أو غير بعيد عنهم، والإحسان إليهم خاصة إذا غادر أحدهما الحياة، فمن الأحسن ضيافة الثاني في بيت أحد الأبناء مدى الحياة، أو التناوب على ذلك.

- العودة للنشاطات والهوايات.

- تفريغ الانفعالات، والتعبير عن المشاعر التي تنتاب الآباء ومشاركتها مع الآخرين للتخفيف من شدة الضغط.

- المتابعة النفسية بالنسبة للآباء الذين فقدوا السيطرة على المتلازمة.

- الاستعداد لانفصال الأبناء كأسلوب وقاية، والتخطيط لاتباع نمط حياة جديد، تفاديا لمخلفات الغياب.