النجاح الإخباري - رئـيس ديـوان رئـيس الوزراء

يُشير موقع الموسوعة الحرة إلى أن نسبة المتعلمين في دولة فلسطين على مدار أكثر من 60 عام هي الأعلى مستوى في العالم العربي، وهي في ذات الوقت من أعلى النسب العالمية، وأن معدلات الالتحاق بمؤسسات التعليم لدينا هي أيضاً الأعلى بالمقاييس الإقليمية والدولية، وهو ما يعكس بوضوح أهمية التعليم بالنسبة لنا، والذي مرده الرئيسي الانتكاسات السياسية المتكررة التي ما زال يتعرض لها شعبنا، وتسببت في نزوحه عن أرضه وفقدانه للكثير من أملاكه ومصادر عيشه المختلفة؛ زراعية، تجارية، صناعية، وغيرها، ما حذا بالعائلة الفلسطينية إلى الاستثمار في تعليم الأبناء للإستعانة بهم على نائبة الدهر، ولاحقا للمغادرة الآمنة والكريمة لهذا العالم. ومن الطبيعي والحال كذلك أن نشهد إقبالاً كبيراً على الالتحاق بالجامعات المحلية، حيث يُكافح أولياء الأمور في سبيل حصول أبنائهم على قبول في إحداها، خاصة في ظل عدم المقدرة المادية لغالبيتهم من توفير فرص تعليمية لأبنائهم في جامعات عربية أو أجنبية.

إلا أن العبرة ليس فقط في أعداد المتعلمين وإنما في مستوى تأهيلهم ومقدرتهم على إحداث التغير المنشود في مجتمعنا والوصول به إلى النهضة المرجوة في كافة مجالات حياتنا. وأذكُر أن مُراسلاً لإحدى الصُحف المحلية سألني في بدايات شَغلي لمنصب عميد كلية الاقتصاد والعلوم الادارية (الاجتماعية حالياً) في جامعة النجاح الوطنية، في معرض كتابته تقريراً صحفياً عن علاقة البرامج الأكاديمية التي تطرحها أقسام الكلية المختلفة باحتياجات سوق العمل الفلسطيني، هل تتوقعون فرص عمل لخريجيكم، في ظل محدودية فرص العمل المحلية، ومنافسة خريجي الجامعات الأخرى لهم؛ المحلية والخارجية؟، وكانت إجابتي له: أن أرباب العمل في سعيهم المستمر لنجاح وتعظيم المنافع الاقتصادية للمؤسسات التي يديرونها لا بد وأنهم سيكونون في إحتياج دائم لموظفين جدد من أصحاب الكفاءة والخبرات الملائمة، يستبدلون بهم غير الفاعلين أو المستكينين من الموظفين القدامى، والأمر في جوهره برأي مرهون بجودة عملية التعليم والتعلم؛ أي بدور المؤسسة ودور الفرد.

فالجامعات الفلسطينية مطالبة من جهتها بأن تقدم لطلبتها أفضل ما لديها من جودة التعليم؛ برامجاً أكاديمية ذات صلة باحتياجات مجتمعنا وتُسهم في تلبيتها، أعضاء هيئة تدريس على مستوى عالٍ من التأهيل والتدريب، مصادر علمية وتعليمية وبحثية متنوعة، تتسم بالحداثة والتطور، وبرامج تدريب عملي مُكملة ومناسبة، تُنفذ بالشراكة مع قطاعات العمل المختلفة في الوطن وخارجه إن أمكن، وعليه فإن مؤسساتنا التعليمية تضطلع بمسؤولية رفد مجتمعنا الفلسطيني بالدرجة الأولى قبل غيره من المجتمعات المحيطة بنا، بقادةٍ وصُناع قرار، قادرين على تشخيص المشاكل في مجالات عملهم بحنكة ودرايه وإيجاد الحلول الملائمة لها. 

من جهة أخرى يقع على عاتق الطالب الجامعي مسؤولية التعلم النشط وتعظيم الفائدة العلمية والعملية المتوخاة له أثناء فترة دراسته الجامعية من خلال مواظبته على حضوره المحاضرات والمشاركة الفاعلة بها، وأداء واجباته الدراسية على الوجه الأمثل، وتكثيف مطالعاته الاضافية للمصادر العلمية في مجالات تخصصه، والحرص على المشاركة في ورش العمل والندوات والدورات والبرامج التدريبية المُكملة، وتلك المتعلقة بتنمية وصقل قدراته ومهاراته المتعددة؛ اللغوية، والقيادية، والقدرة على التواصل والاتصال، وغيرها.

ما ذكرني بتلك الحادثة ودفعني إلى الكتابة في هذا الخصوص، المقابلات النهائية التي أجرتها لجنة وزارية خاصة بتاريخ 26/10/2017 في مدينة رام الله بمقر المدرسة الوطنية الفلسطينية للإدارة التابعة لديوان الموظفين العام، بغرض اختيار 30 مرشحاً من أصل 42 وصلوا لمرحلة المقابلات من المتقدمين لبرنامج إعداد القادة الفلسطينيين 2017، وهو برنامج تدريبي يهدف بشكل رئيسي إلى تنمية وتعزيز المهارات القيادية والإدارية لموظفي الفئة الأولى في القطاع العام (مدراء أ-ج)، ليكونوا قادة وصانعي قرار في دولة فلسطين من خلال مجموعة من البرامج التدريبية، تنتهج أساليب تطويرية تفاعلية تستمر مدة 12 شهراً، ومُقسمة على أربعة مراحل، تتضمن الأولى منها تدريب علمي نظري في مواضيع منها التخطيط والإدارة العامة، القيادة والريادة، القوانين الرئيسية السارية في فلسطين، العلاقات الدولية، المالية العامة، وتشتمل المرحلة الثانية على تدريب عملي تطبيقي من خلال تشكيل فرق عمل تتعامل مع حالات دراسية منتقاة بإشراف خبراء مختصين، يلي ذلك في مرحلة ثالثه تدريب الموظفين في مواقع عملهم، ومن ثمَّ في المرحلة الرابعة والأخيرة يتقدم المتدرب بمشروع بحثي لإكمال متطلبات تخرجه.

ولفت انتباهي ما إتسمت به آلية عقد الامتحان من نزاهة وشفافية نسعى جميعنا لتجذيرها ممارسة في ثقافتنا العامة، وتتطلب شُكر القائمين عليها، حيث دعت المدرسة الوطنية للإدارة ألـ 120 متقدماً لبرنامج إعداد القادة إلى الجلوس بدايةً لامتحان الكتروني اشتمل على أسئلة غطت المواضيع المُشار إليها أعلاه، واعتمدت في اجاباتها بالإضافة للحصيلة العلمية للمتقدم (الموظف) على خبراته المكتسبه عبر سنوات خدمته في القطاع العام وعلى حجم ثقافته العامة وإلمامه بمختلف شؤون الوطن. نتيجة الامتحان ظهرت الكترونياً مباشرةً للممتحنين، وغُربلوا بموجبها إلى 42 مرشح لمرحلة المقابلة من قبل اللجنة الوزارية التي شُكلت خصيصاً لهذا الغرض، وبث تلفزيون فلسطين عدداً من المقابلات في بث حيّ ومباشر لاقى إستحسان الجمهور الفلسطيني.

كُثر من الكتّاب العرب والعالميين من ذوي الاختصاص في مجالات الادارة الحديثة، ركزوا في كتاباتهم على أهمية مثل هذه البرامج في بناء قيادات مستقبلية شابة، يتم تدريبها وإشراكها في صناعة القرار، ليكونوا مؤهلين لإستلام دفة القيادة عند الحاجة إليهم بكل سهولةٍ ويُسر، وبما يضمن إستمرار مسيرة التنمية والعطاء في أي بلد. وقد حذر بعض الكتاب العرب إلى "أن العُقم القيادي، وغياب الصّف القيادي الثاني من القيادات البديلة لمن أهم المخاطر التي تُهدد مستقبل مؤسّساتنا العربيّة"، التي لا تسمح غالباً بتبادل الآراء ووجهات النّظر، وتقوم على أساس توجيه الأوامر والتعليمات من الادارة العُليا إلى الدُنيا، مهمشةً عملية التّشاور، لينشأ فيها مرؤوسين أشباه ألآت، غير قادرين على الفكر والإبداع والابتكار، ويقومون فقط بتنفيذ ما يُزودوا به من خطط وسياسات، ويُحدد لهم من اجراءات.

أما في فلسطين فإنّ الاهتمام بتدريب الصّف الثاني للقيادة في الوظيفة العمومية شكل أولوية لدى حكومة تكنوقراط، حافظت على مهنيتها واستقلاليتها في أدائها لمهامها وعلاقاتها، وإنتهجت لنفسها شعار "المواطن أولاً"، مدركةً أنه لا خدمة لهذا المواطن دون إحداث نقلة نوعية في قدرات صّناع القرار الفلسطيني في الجهاز الاداري العام، ليكون قادراً على تلبية إحتياجات المواطنين وتحقيق طموحاتهم في كافة مناحي الحياة التعليمية، والصحية، والزارعية، والاقتصادية، والثقافيه، وغيرها. ومن مُنطلق قاعدة أن القيادة الناجحة هي تلك التي تصنع المزيد من القادة وتحيط نفسها بهم، جاءت مصادقة الرئيس محمود عباس على القرار بقانون رقم (5) لسنة 2016م بتاريخ 4/2/2016، بناءً على تنسيب مجلس الوزراء بتاريخ 1/12/2015، بشأن إنشاء المدرسة الوطنية الفلسطينية للإدارة التي تسعى لإيجاد "طواقم إدارية متميزة وقادرة على إحداث التغير الإيجابي في القطاع العام والقطاعات الفلسطينية الأخرى"، من خلال التزامها بالإسهام في تحقيق التميز لدى الموظف الفلسطيني في كافة القطاعات، معتمدةً على مبادئ الحكم الرشيد وملتزمة بمبادئ العدالة وتساوي الفرص وتكامل الأدوار.

إن إنشاء المدرسة الوطنية الفلسطينية للإدارة يُعتبر إنجازاً وطنياً هاماً يحاكي تجارب عالمية أثبتت نجاعتها ولعبها دوراً مفصلياً هاماً في حياة شعوب كثيرة، ويُشكل لبنة أساسية من لبنات بناء دولة المؤسسات والقانون التي نحلم أن نعيش فيها وأجيالنا القادمة، والآمال معقودة عليها لترسيخ ممارسة ثقافة الوظيفة العمومية وفق أفضل الممارسات الإدارية، والإرتقاء بأداء وفاعلية وكفاءة الموظف الفلسطيني العام لتقديم أفضل الخدمات لمواطنينا الذين عانوا الكثير. ومن المأمول أن تنسُجَ المدرسة الوطنية للإدارة علاقات شراكة وتعاون مع كافة الجهات والمؤسسات الفاعلة والمؤثرة الأخرى في مجالات عملها في قطاعات العمل العام والخاص والمجتمع المدني والتعليمي والبحثي والدولي، لضمان مواكبة أحدث التطورات والخبرات ونقلها لمؤسساتنا بما يتلاءم مع الواقع الفلسطيني.

إنجاز آخر هام لشعبنا، سيسطره تاريخ دولتنا الفلسطينية في كلمات تُكتب بماء الذهب تحت شعار "نبني الإنسان لنخدم المواطن ونُعمر الوطن"، ويُعيد إلى الأذهان من غياهب الذاكرة شعار "الأنسان أغلى ما نملك"، الذي أطلقه جلالة المغفور له بإذن الله، ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال باني نهضة الأردن الحديث.