وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - اتسم الفكر في العالم العربي بالتنوع  بين فكر قومي عبرت عنه الناصرية وحركة القوميين العرب، وحزب البعث في سورية والعراق، وفكر ليبرالي عبرت عنه البرجوازية الوطنية ما قبل الانقلابات العسكرية، وفكر يساري، وفكر ديني إسلامي، وفكر وطني خليط من ألوان الفكر المختلفة عبرت عنه جبهة التحرير الجزائرية وحركة فتح.
في البحث عن عناصر القوة وأسباب الهزائم والتحولات الرجعية، والاستبداد والاستلاب، عندما تخفق الأنظمة صانعة الاستقلال، وتخفق الأحزاب والحركات الوطنية واليسارية، وتسيطر أنظمة التبعية التي كانت على الهامش، وتسيطر قوى اليمين الديني على المجتمعات يجدر التدقيق في الفكر والثقافة السائدين، حيث يحيل الإخفاق والتحولات إلى دور الفكر. البداية ستكون مع الفكر القومي.  
ساد الفكر القومي في عقود خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وارتبط بأنظمة حكم مصر الناصرية وسورية والعراق البعثيتين وما بينهما ليبيا والسودان واليمن والجزائر. نجحت أنظمة الحكم التي تبنت الفكر القومي في تحقيق الاستقلال النسبي عن الدول الاستعمارية وبناء الدولة الوطنية باعتماد سياسة تأميمات وإصلاح زراعي وهيكل اقتصادي رأسمالي وأسواق محلية.
وواءمت تلك الأنظمة بحد أدنى بين الفكر القومي والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وبالمقارنة مع الأهداف والشعارات التي طرحت في مرحلة الصعود كالتنمية والوحدة والحرية والاشتراكية، كان الحصاد متواضعاً.
كان الاختلال في ترجمة الفكر في مجال الديمقراطية التي غيبت حتى كشعار، فقد جرى إنتاج سلطة أبوية ديكتاتورية عنوانها الحزب الواحد والقائد الواحد والسياسة الواحدة والخطاب الواحد والثقافة والأيديولوجية الواحدة واللغة الواحدة، وكان الاستثناء الوحيد هو تعدد الأديان مع انحياز غير معلن للديانة الإسلامية.
كان للعسكر نصيب الأسد في الحكم حين شاعت الانقلابات العسكرية كأسلوب وحيد للصعود إلى الحكم أو تبادل السلطة وتقاسم جنرالات الجيش المراكز الحساسة في الدولة من وزراء ومحافظين ورؤساء أجهزة أمنية وإعلام وغير ذلك، وقدم العسكر نموذجاً للحكم الفاسد. وحُظِرت الأحزاب الأخرى وجرى كما في التجربة الناصرية والليبية حل ومنع الأحزاب أو جرى إلحاقها بالحزب البعثي الحاكم كما في سورية والعراق، أو قام العسكر بقتل  المعارضين كإعدام قيادات الحزب الشيوعي السوداني، وإعدام صدام حسين لأكثر من 100 قيادي وكادر بعثي بتهمة التآمر، أو اعتقال حتى الوفاة لكل قيادة الاتجاه البعثي الحاكم – صلاح جديد - في سورية، أو احتلال نظام علي عبد الله صالح لجنوب اليمن الديمقراطي وتصفية الحزب قتلاً وتشريداً.
كان حال الحريات كحرية التعبير والنقد والتنظيم بما في ذلك التنظيم النقابي والترشيح والانتخاب من الممنوعات. الحرية الوحيدة المسموح بها هي حرية الهتاف للرئيس وانتخابه وانتخاب ممثليه في البرلمان والاتحادات.
الثقافة والفنون والإعلام أخضعت لرقابة وسيطرة مع وجود هامش لدواعي التنفيس.
العداء للديمقراطية في خطاب الأنظمة وفي الممارسة كان يعني إقصاء ومنع  الشعوب من المشاركة في الدفاع عن الوطن، ومن حصولها على حقوقها ومصالحها وحقها في المواطنة التي تنكرت لها تلك الأنظمة.
تنكر الفكر القومي وسلطاته الحاكمة في الخطاب والممارسة لحق الأقليات القومية في تقرير المصير بحرية، وفي استخدام اللغة الخاصة بهم وممارسة الثقافة والتعبير الفني، كالأكراد  والتركمان والأمازيغ وغيرهم من أقليات عرقية في السودان وموريتانيا، وجرى قمع طموحات هذه المكونات بالإقصاء وطمس الهوية كل الوقت، وبالمجازر أحياناً وبتجاهل ثقافتهم وتراثهم.
الشي نفسه ينطبق على الأقليات الدينية كالأقباط في مصر والشيعة في السعودية والبحرين. الموقف الإقصائي وبخاصة عندما يتحول إلى رأي عام وثقافة شعبية، يدفع الأقليات للاستقواء بالعامل الخارجي، ويستخدم هذا النوع من السياسة في احتدام الكراهية وردود الفعل التي تعزز الإقصاء.
الموقف من الأقليات القومية والدينية في المغرب والجزائر أكثر مرونة لجهة الاعتراف باللغة وبالثقافة لكنه لا يزال غير ديمقراطي من زاوية الحريات والمساواة في الحقوق.
من جهة أخرى يكشف موقف إنكار الحقوق والمساواة، رفضاً لوحدة الشعب الواحد وفي إطار البلد الواحد على قاعدة التعدد الثقافي والقومي والإثني، فما حسب إذا كانت الشعوب بصدد تحقيق الوحدة في أكثر من بلد تجسيداً لشعار الوحدة العربية كأهم عنصر من عناصر الفكر القومي.
أخفقت الأنظمة القومية في تحقيق اندماج داخلي تعددي في بلد واحد، وقدمت نموذجاً فاشلاً في الوحدة مع بلد أو أكثر - الجمهورية العربية المتحدة، مصر وسورية – واتحاد الجمهوريات العربية - مصر وسورية وليبيا – وحتى بالمعنى الجبهوي أخفقت تجربة جبهة الصمود والتصدي التي أنشئت في أعقاب اتفاقيات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية. وكان الإخفاق حليف القوميين في تحقيق وحدة من النموذج الأوروبي تستند لسياسة خارجية موحدة، وسوق مشتركة وعملة موحدة وحرية انتقال الأفراد والبضائع بين الدول، واتفاقية دفاع مشتركة.
الإخفاق بلغ ذروته بالرد الدموي على الانتفاضات والثورات الشعبية والتي أرسلت نصف السكان السوريين إلى خارج وطنهم ولاجئين داخله وأرسلت عشرات الألوف إلى المعتقلات. كل الإخفاقات تعود إلى افتقاد الفكر القومي لمضمون ديمقراطي.
يتعزز هذا الاعتقاد بغياب التحرر الاجتماعي فكراً وممارسة، ومن يدقق في قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات في فترة الصعود والآن سيجد التمييز ضد نصف المجتمع من النساء.
لم يطرأ تغير يذكر على واقع المرأة التي بقي تمثيلها محدوداً في البرلمان وفي الوزارات وفي سائر الإدارات. أما في التعليم فقد جاء في كتاب عبد الله العروي "العرب والفكر التاريخي": قام أوليفيه كاريه بدراسة كتب التربية الدينية في الجمهورية المصرية، وأظهر ابتعاد مضمون هذه الكتب عن كل القيم الحديثة التي كان من المتوقع أن تستنتج من الاختيار الاشتراكي". كانت مصر الناصرية تتعامل بأنها دولة اشتراكية، وتعامل الاتحاد السوفييتي معها ومع سورية باعتبارهما دولتين ذواتي توجه اشتراكي.
ولم يتعاطَ الفكر القومي مع نظريات الحداثة والتحرر الاجتماعي والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة، وأخفقت الأنظمة المحملة بالفكر القومي في بناء دولة حديثة، بل سرعان ما استعانت بالعصبيات وبعلاقات ما قبل رأسمالية لتكريس سيطرتها.
تحالف السادات مع الإخوان المسلمين والإسلام السياسي. وسمح حافظ الأسد للسلفية القبيسية بالتغلغل داخل المجتمع السوري، واستعان صدام حسين بالعشائر والقبائل في تعزيز حكمه.
التراجع والإخفاق مس ما تم إنجازه في مراحل النهوض بالعودة إلى علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والأمنية.
المس هنا أصاب شعار الحرية في مقتل، توج العجز في حل المسألة الوطنية بإبرام صفقات واتفاقات أطاحت بالاستقلال النسبي السابق.   
البعض يطرح تجديد الفكر القومي بعد فشله وخسارته الفادحة في الممارسة والنظرية على حد سواء.
غير أن تحديث الفكر يرتبط بالإجابة عن التحديات التي يطرحها الواقع (كعلاقات التبعية والارتهان لدول الهيمنة الإمبريالية والحقوق الاجتماعية وحقوق المواطنة والديمقراطية والهوية) والذي يعني تجاوزاً للفكر القومي، وما انطوى عليه من شمولية وتعصب سادا طوال الوقت.