وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - "إن نقد السلطة واجب أخلاقي، والعكس فإن عدم النقد ينم عن انعدام الحسّ الأخلاقي".
إدوارد سعيد

شهدنا، في الأسابيع الثلاثة الماضية، هجمات متبادلة بين المستويَين الثقافي والسياسي الفلسطينيّين، انعكست سلباً على القضية الوطنية، وذلك عندما جرى قلب معادلة الصراع رأساً على عقب، فبدلاً من وضع العالم أمام واجب مساءلة ومحاسبة الذين يمارسون التطهير العرقي وسرقة الأرض وبناء المستعمرات وارتكاب جرائم قتل وقمع واعتقال وهدم منازل، يتحول المعتدون إلى ضحايا يعانون من استمرار العداء للسامية الذي شاركت فيه القيادة الفلسطينية سابقاً، ويعانون راهناً من إنكار القيادة الحالية للمحرقة وتحميل اليهود – الضحايا - المسؤولية عنها. وبهذا تخسر فلسطين الشيء الكثير في زمن شديد الصعوبة.
منذ سنوات، نشهد انفضاض المستوى الثقافي المستقل عن المستوى السياسي مخلفاً فراغاً وأثراً سلبياً على الأداء السياسي، مقارنة بالتلاقي السابق الذي ترك بصمات قوية على المستوى والحضور السياسي.
يجدر العودة إلى تلك الفترة التي لعب فيها مركز الأبحاث ومركز التخطيط دوراً مهماً في تزويد المستوى السياسي بالمعرفة والأفكار، وفي الرقابة والنقد والتدخل في الوقت المناسب. ارتبط النجاح السابق باستقلالية المستوى الثقافي ومقاومته لكل أشكال تحويل المثقفين والمفكرين إلى ملحقين بالمستوى السياسي. وفي العادة كان ولا يزال يطيب للقيادة السياسية أن يُسمعها المفكر أو المثقف ما ترغب في سماعه. وإذا ما تحقق ذلك تنتهي وظيفة المثقف والمفكر كمعارض وناقد، وعلى ضوء ذلك يصبح من السهل تراجع الديمقراطية وممارسة التفرد في الحكم بعيداً عن المعايير والأنظمة والقوانين.
مؤخراً لم تكن المشكلة في تدخل الأكاديميين والمثقفين حول خطاب الرئيس أبو مازن من حيث المبدأ، إنما المشكلة في انفضاضهم وعدم تدخلهم في قضايا سياسية وديمقراطية، وفي مجال التعليم والضمان الاجتماعي ومنظومة القوانين، وغير ذلك من القضايا التي تمسّ حياة المجتمع الفلسطيني في الداخل وفي تجمعات الشتات.
يفسر خالد الحروب انفضاض المثقفين والأكاديميين عن السلطة، "بأنه يأتي من موقع تحوّلها من ثورة غير مكتملة إلى سلطة غير مكتملة، مشوهة بنيوياً، تشتغل ضمن آليات تعزيز الاستعمار الاستيطاني وخدمة أمنه وأمن مستوطنيه"، ويصل إلى نتيجة أن الجفاء بين المثقفين والسلطة يصعب إن لم تستحل إزالته طالما البنية التكوينية للسلطة القائمة مستمرة".
هنا الوردة.. فلترقص هنا. أو هذا بيت القصيد. فمنذ الانتفاضة الثانية، تسعى دولة الاحتلال، ومعها الإدارات الأميركية ودول أوروبية، إلى إحداث هذا التغيير وسط استجابة فلسطينية أحياناً، وممانعة أحياناً أخرى، بحسب الميزان الداخلي لحركة "فتح" والقوى السياسية من داخل المنظمة وخارجها. ما كان المطلوب هو انتظار التحويل والتسليم به والانفضاض عن السلطة، بل التدخل بشتى الطرق لمنعه وقطع الطريق عليه، من خلال الدور المنوط بالمثقفين القيام به، عبر إضاءة الطريق أمام المعارضين القائمين والمحتملين. وهذا لم يحدث للأسف في ظل انقطاع المستوى السياسي للتنظيمات عن "المكتبة الفلسطينية الأكاديمية" - التي تحدث عنها الحروب - الزاخرة بالمعارف والأفكار، فلا أحد يقرأ من السياسيين وهذه ظاهرة مستفحلة راهناً. كان ينبغي لمثقفين عضويين أن يجسروا الهوة بتأصيل منتجهم، وتقديمه لمن يهمه التغيير والتطوير من داخل الحركة السياسية وخارجها، ومن داخل الحراكات الشبابية الثورية.
ما زال التحويل الذي ترغب به دولة المستعمرين المحتلين غير مكتمل ويسير ببطء، وهو معقد وشائك على أرض الواقع، وإن استعجل بعض المثقفين والأكاديميين اكتماله، واستعجلوا انتقال السلطة إلى خندق الاحتلال، وقبلها انتقال المنظمة إلى الخندق ذاته. ولأن التحويل غير مكتمل، يفتح خالد الحروب نافذة مواربة بالقول: "بيد أن الآلية التي ربما تفتح قنوات معقولة هي م.ت.ف، وقد يكون تفعيل بعض لجانها باتجاه التواصل مع شريحة الأكاديميين والمثقفين جزءاً من آلية تفعيلها. هنا يتم تجاهل أن التحويل المضاد يشمل المنظمة ويتركز على حركة "فتح" أيضاً، كما يقول الحروب، ولم يعد الفصل بين المنظمة والسلطة التي أصبح اسمها دولة فلسطين والمعترف بها كعضو مراقب في الأمم المتحدة، ذلك أن التدخل الأكاديمي الثقافي مطلوب في كل الحلقات، ومطلوب تعاطيه مع الأهداف المتناقضة في التحويل والتحويل المضاد.
يتفق كثيرون من خارج الموقّعين على بيان الأكاديميين، أن خطاب الرئيس أبو مازن الموجه للمجلس الثوري أفسح المجال للهجوم عليه، وعلى الشعب الفلسطيني، من قبل حكومة نتنياهو - بن غفير، وإدارة بايدن والاتحاد الأوروبي. المسألة اليهودية من المفترض أن تحتل اهتماماً فلسطينياً كبيراً بحثاً ودراسة ومقارنة، ولِمَ لا تدخل في المناهج الفلسطينية في الجامعة والمدارس ومراكز البحث، سيما أن الشعب الفلسطيني أصبح ضحية للضحايا، وأن حل المسالة الفلسطينية حلاً عادلاً يرتبط بحل المسألة اليهودية، غير الحل الذي أنتج نكبة مستمرة ومتفاقمة ومُهدِّدة لوجود الشعب الفلسطيني. لا يمكن تناول المسألة اليهودية بخطاب دون تمحيص المراجع التي اعتمد عليها الرئيس. نحن بحاجة إلى باحثين ومراكز متخصصة لتقديم الأفكار والدروس وإغناء معرفة الشعب الفلسطيني بالعداء للسامية والهولوكوست، ونتائجهما الأكثر وحشية في التاريخ، وبكل الجرائم التي ارتكبت بحق الأعراق والديانات والشعوب الأخرى. فلا يمكن للشعب الفلسطيني أن يحظى بدعم وتضامن شعوب العالم بمعزل عن تضامنه ودعمه لكل المنكوبين في العالم. لا شك في أن الجدول الفلسطيني يزدحم بأزمات التطهير العرقي ونهب الأرض وجرائم القتل والحصار، والأزمة المالية المتفاقمة، وأزمة الديمقراطية وأزمة المؤسسة، وأزمة الثقة بين أكثرية المواطنين والسلطة وأجهزتها الأمنية، ولا تملك القوى السياسية، خاصة الحاكمة، ترف نقاش التاريخ.
في مقابل ذلك، يملك الأكاديميون الموقّعون على البيان مواقف سياسية أفضل كثيراً مما قالوه في بيانهم العجالة، من حقهم انتقاد الخطاب، واعتبار أن ما قاله الرئيس لا يعبر عن موقف الأكاديميين وضار بالقضية الفلسطينية، وقد ثبت ذلك من ردود الفعل، ومن انتقال حكومة الاحتلال إلى الهجوم السياسي والتغطية على جرائمها. مقابل ذلك لا يمكن إدراج ما قاله الرئيس بأنه عداء للسامية وإنكار للمحرقة، فالعداء والإنكار بنية فكرية وسياسية لها مصالح أبعد من تفوهات، وهي غير متوفرة في الواقع الفلسطيني الرسمي والشعبي.
موقف الأكاديميين من الشرعية خَلَطَ بين اعتبار موقف الرئيس، الذي عبّر عنه في الخطاب، لا يمثل هذه الجهة أو تلك ويتناقض مع مصلحة الشعب وأنه مرفوض، وبين الموقف من شرعية فلسطينية معترف بها فلسطينياً وعربياً ودولياً، وهي ضرورة بصرف النظر عن الأداء والتفرد واللاديمقراطية والفساد، التي من الواجب نقدها والعمل على تغييرها دون فرط الشرعية، ودون ترك مصير شعب معرض للشطب تحت رحمة من لا يرحم.
الهجوم المضاد على بيان الأكاديميين، ووصمه بالعار والتآمر والجهل وخدمة الأجندات المعادية، يدعو لرثاء حالنا ووصولنا إلى الحضيض، فلا يمكن تخيل أن مرجعيات أكاديمية وثقافية سامقة، بوزن رشيد الخالدي ويزيد صايغ وغيرهما، كانوا وما زالوا من أهم المرجعيات الفكرية والسياسية يُنعتون بهذه الصفات المتناقضة مع أخلاقيات مهنة الإعلام. نحن بحاجة إلى نقد وتصويب من المستوى الثقافي، وبحاجة إلى أن يصوّب الأبناء آباءهم.