وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - استكمالاً لقراءة كتاب د. علي الجرباوي «من الطرد إلى الحكم الذاتي»، نستعرض هنا مسار التسوية منذ اندلاع الانتفاضة الأولى، وحتى مؤتمر مدريد، الذي أفضى إلى اتفاقية إعلان المبادئ، المعروفة باتفاقية أوسلو.. وأهم ما جاء في الكتاب:
أحدث قرار فك الارتباط في تموز 1988 تحولاً نوعياً في المرتكزات التقليدية لسياسة منظمة التحرير إزاء التسوية، فما كان مألوفاً قبل ذلك لم يعد ممكناً، وقد فقدت المنظمة موقعها المريح في المقعد الخلفي، الذي كان يتيح لها رفض كل شيء لا يوافق مصلحتها، وأصبحت في موقع القيادة، ومطلوب منها تحصيل قبول الآخرين، وأمام استحقاقات فُرض عليها اتخاذ موقف بشأنها، مثل التصرف بالأرض المحتلة وملء الفراغ الأردني وعدم تركه لإسرائيل، والإعلان بموقف واضح وصريح عن مشاركتها في المسيرة السلمية، والقبول باشتراطات طالما تملصت منها.
وبناء على ما سبق وفي ظل احتدام الانتفاضة عقدت الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني العام 1988 في الجزائر، وهناك أعلنت عن قيام دولة فلسطين فوق الأرض الفلسطينية وعاصمتها القدس، وإعلان وثيقة الاستقلال.
ومع أن ذلك عُد بمثابة تطور إيجابي في موقف المنظمة، إلا أن أميركا اعتبرته غير كافٍ، ورفضت منح ياسر عرفات تأشيرة دخول لإلقاء كلمته أمام الجمعية العامة، ما أدى إلى نقل اجتماع المنظمة الدولية من نيويورك إلى جنيف، وهناك طرح عرفات مبادرة السلام الفلسطينية، ونتيجة الضغوط الدولية على عرفات من كافة الاتجاهات وافق على الإعلان عن قبوله قرارات 242، و338، ونبذ الإرهاب، ما أتاح المجال أمام واشنطن لفتح حوار مباشر مع المنظمة جرى في تونس، ما يعني اعترافاً ضمنياً أميركياً بالمنظمة، والتحول عن وصفها منظمة إرهابية، إلى التعامل معها بصفتها التمثيلية للشعب الفلسطيني.
أما إسرائيل، فلم يعجبها اعتراف أميركا بالمنظمة، ولم تأبه لمبادرة السلام الفلسطينية، وعادت إلى نقطة الصفر، غير آبهة بكل ما حدث من تطورات: الانتفاضة الفلسطينية المتصاعدة، وما قدمته المنظمة من تنازلات، لتطرح من جديد مشروع الحكم الذاتي كما جاء في كامب ديفيد.
وبعد حرب الخليج الأولى، وعلى ضوء نتائجها، والتي انتهت بهزيمة العراق وبالتالي خسارة العرب والفلسطينيين لثاني أقوى دولة عربية، بعد خسارة مصر، والتي نجم عنها أيضاً خسارة المنظمة لحلفائها من دول الخليج، وانهيار منظومة التضامن العربي، وقد تزامن ذلك مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وبدء تشكل نظام دولي جديد أحادي القطبية.. انطلقت من جديد الدعوة لمؤتمر دولي للسلام، عقد في مدريد خريف 1991.
لم يؤد مسار «مدريد» إلى أي اختراق سياسي مهم، لكنه شكل الأساس الذي ستقوم عليه التسوية، والتي كانت من وجهة نظر إسرائيل العودة إلى الحكم الذاتي، وقد جوبهت جولات المفاوضات التي جرت في واشنطن برفض وتشدد إسرائيلي، في محاولة منها للتهرب من استحقاقات السلام، وكسب الوقت، مع الاستمرار في مخططاتها الاستيطانية والتوسعية.
ومع استمرار جولات المفاوضات التسع من كانون الأول 1991، وحتى تموز 1993 لم تتحقق أي اختراقات تُذكر، فقد أصر الجانب الإسرائيلي حصرها في الموضوع الإجرائي المتعلق بترتيبات الحكم الذاتي الانتقالية، فيما أراد الفلسطينيون طرح البعد السياسي، وكانت الهوة بين الجانبين عميقة جداً، والانحياز الأميركي واضحاً، وفي حينها قال عرفات: «لقد حاربت طويلاً للحفاظ على استقلالية القرار الوطني ووحدانية التمثيل الفلسطيني، وما يجري خدعة أميركية هدفها تصفية القضية الفلسطينية، وأنا لا أقبل أن أكون حصان طروادة، وإذا استمرت الضغوطات الأميركية سأصارح الشعب وسأخرج كلياً من عملية السلام، لأنها عملية إذلال للفلسطينيين ولن تعيد لهم حقوقهم».. وفي تصريح آخر قال: إن الوفد الفلسطيني ضعيف، ويراد من خلاله إخراج المنظمة من حلبة الصراع، ما يعني أن توقعات القيادة الفلسطينية من المفاوضات لم تكن كبيرة، بل كانت لديها خشية من تجاوز المنظمة.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية عقد حزب العمل مؤتمره الخامس، وتوصل إلى برنامج لخوض المفاوضات يتضمن نقاطاً مشجعة، أبرزها أن التسوية المنشودة يجب أن تحقق أمن إسرائيل وتكون مستندة إلى قرارَي 242، و338، مع الاعتراف بالحقوق الوطنية للفلسطينيين، والتوقف عن بناء مستوطنات جديدة. وبعد فوزه في الانتخابات وتشكيل رابين حكومة جديدة، تواصلت جولات المفاوضات في واشنطن، وبدأ رابين بالتراجع عما تضمنه برنامجه الانتخابي، وظلت المفاوضات تراوح مكانها.
في هذه الأثناء فتحت قناة اتصال سرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو، بدأت تحرز تقدماً مهماً مقارنة بمفاوضات واشنطن، تمخضت بعد جولات عديدة عن التوصل إلى «إعلان مبادئ»، وبذلك أسدل الستار على مفاوضات واشنطن، وعلى إثرها تم تبادل الاعتراف بين المنظمة وإسرائيل.
كان واضحاً أن إسرائيل مستعدة للانسحاب من قطاع غزة، وما ينقصها لإنجاز ذلك إيجاد من يقبل بحكمها، وهنا ضغط المصريون على عرفات للقبول بحكم غزة، بيد أنه اشترط أن يكون ذلك مع حكم جزء من الضفة الغربية، وإيجاد ممر بينهما، وهكذا طرح مشروع غزة أريحا أولاً.. بالنسبة للإسرائيليين، فإن عرفات وقع في مصيدة غزة، أما عرفات فوجد في الاتفاق طوق نجاة للمنظمة للخروج من عزلتها، وتفادي محاولات شطبها، والتواجد في مركز الحدث.
جرت مفاوضات أوسلو ضمن ظروف غير اعتيادية، وبصورة غير متكافئة، بالنسبة للجانب الفلسطيني كانوا يعملون تحت سيف الوقت والسرية، فكانوا يرغبون بالتوصل إلى اتفاق سريعاً قبل أن تتكشف للإعلام، هذا الأمر دفعهم للتخلي عن إشراك فلسطينيين من ذوي الكفاءات والاختصاص، خاصة القانونيين، والمشكلة أن الوفد المفاوض المصغر ليس بينهم من يتقن الإنجليزية بطلاقة وحرفية قادرة على تمييز المصطلحات القانونية، ثم إن إسرائيل وضعت الوفد الفلسطيني تحت صيغة الممتَحن، المطلوب منه إثبات جدارته وجديته، فكانت تشكك في مدى تمثيل الوفد للفلسطينيين، وفي قدرته على فرض الاتفاق على الشعب، ثم وضعته تحت هاجس اعتراف إسرائيل بالمنظمة، وبالتالي تركزت جهودهم على هذا الجانب على حساب التفاوض على القضايا الأخرى.. بينما كان الفريق الإسرائيلي من ذوي الاختصاص، ومتمكن لغوياً وقانونياً، ومتحرراً من قيود التسرع واللهفة، لذا سيطر على جولات التفاوض منذ البداية.. وقد ركز على طرح القضايا الإجرائية لكيفية تنفيذ الحكم الذاتي، وترحيل القضايا السياسية الكبرى إلى مفاوضات أخرى ستجري بعد انتهاء المرحلة الأولى. وقد قبل الفلسطينيون ذلك وتم التوقيع بالأحرف الأولى بعبارات مطاطة وغامضة وقابلة للتأويل.