وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - استكمالاً لقراءة كتاب علي الجرباوي «من الطرد إلى الحكم الذاتي».. تناول الفصل الخامس الفترة من كامب ديفيد إلى الانتفاضة، ومحاولات فرض الحكم الذاتي، مستعرضاً المشاريع الإسرائيلية للتسوية من وجهة نظر إسرائيل، أولها روابط القرى، ثم إقامة «الإدارة المدنية» ثم توسيع رقعة الاستيطان، وتقوية المستوطنين والاستفادة منهم كقوة انتخابية، ثم مشروع ريغان، وإيجاد قيادات بديلة من خلال البلديات، تحت مظلة أردنية، والردّ الفلسطيني بعقد «اتفاق عمّان» وإقامة اتحاد كونفدرالي مع الأردن، ثم سقوط الاتفاق، ثم الحل الوظيفي المركب المسنود للأردن و»اتفاقية لندن». وصولاً إلى اندلاع الانتفاضة الأولى التي فاجأت الجميع، وقلبت المشهد السياسي كلياً، وصدور قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية.
حمل الفصل السادس عنوان «الوصول إلى مدريد: إسرائيل تفرض شروطها»، مستعرضاً الأحداث التي جرت، والمبادرات السياسية التي طرحت في ظل تصاعد الانتفاضة، وتحقيق منظمة التحرير اختراقات مهمة في الساحة الدولية، بدءاً من مبادرة شامير، والتي جاءت رداً على هجوم السلام الفلسطيني، وانتهاء بعقد مؤتمر مدريد.
ويشير الكاتب إلى أن أهم عناوين تلك الفترة أزمة التمثيل الفلسطيني، ورفض إسرائيل مشاركة المنظمة في المفاوضات، وتعنّتها إزاء استحقاقات السلام، ورفضها تقديم أي تنازل، مع انحياز ودعم أميركيَّين للموقف الإسرائيلي، وقد رأت المنظمة في مؤتمر مدريد ممراً إجبارياً، وفرصة للعودة إلى الساحة السياسية بعد اشتداد الحصار العربي والدولي عليها، وكان المخرج الذي ارتأته المنظمة؛ للخروج بأقل الخسائر، القبول بالمشاركة بوفد فلسطيني أردني مشترك، مع إصرار على أن يتضمن الوفد شخصيات من الداخل والخارج ومن القدس، ومقربين من المنظمة.
جاء الفصل السابع بعنوان «اتفاق أوسلو، إبرام الحكم الذاتي»، مؤكداً أن إسرائيل حققت إنجازات كبيرة في مؤتمر مدريد، فقد استطاعت فرض وجودها كأمر واقع على العرب من خلال قبولهم بالتفاوض معها في مسارات ثنائية منفصلة عن مسار القضية الفلسطينية، ومع ذلك لم يكن في وارد شامير تقديم تنازلات، أو التزحزح عن اللاءات الإسرائيلية المعهودة.
تحدث الفصل الثامن عن الاتفاقية الانتقالية، وتكريس الحكم الذاتي، موضحاً أن قيادة المنظمة وقّعت على أوسلو وهي في أوهن حالاتها، لإنقاذ نفسها، أو إنقاذ المنظمة، وكان ذلك بمثابة قفزة عن حافة جرف سحيق، تأملت أن تنتهي القفزة بهبوط آمن وسليم، إلا أنها حشرت نفسها في قفص الاحتلال وضمن الاشتراطات الإسرائيلية، وأنها بذلك لم تكن تعرض نفسها لامتحان عسير يتوقف عليه مصيرها، بل كانت ترهن هذا المصير بمصير القضية الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطيني عند إسرائيل.
يقول الكاتب في الفصل التاسع: إن العام 1948 جلب للفلسطينيين النكبة، فيما جلب العام 1967 النكسة، أما العام 1993، فقد جلب لهم المأزق والمحنة، التي مثلتها أوسلو، والتي من خلالها تمكنت إسرائيل من المواءمة بين هدفين إستراتيجيَّين، الأول الاحتفاظ بالأرض، والثاني التخلص من الخطر الديموغرافي، بحيث ضمنت القدس، وتخلصت من غزة، وحافظت على الضفة دون ضم رسمي، وأحالت التبعية القانونية للسكان إلى جهة فلسطينية، باحتلال غير مباشر وغير مكلف، خفي عن العالم، وناعم على الفلسطينيين.
ويخلص للقول: إنه عندما يعتل السبب تختل النتيجة، وهذا ما حصل مع المنظمة، فدخولها مفاوضات مصيرية، تحت وهم انعدام الخيارات، فرضَ عليها تقديم التنازلات، بينما كان الطرف الإسرائيلي في وضع قوي ومريح فتمكن من فرض شروطه.
وفي إجابته عن سؤال ماذا بعد؟ يقول: إن كافة مشاريع إسرائيل للحكم الذاتي، بما فيها أوسلو، ومع كل جهودها لفرض هذه الحلول بالقوة، فإنها بذلك لا تغلق الصراع، بل تؤجله فقط إلى حين، وإن الورطة التي وقعت فيها إسرائيل ستظل تكبر وتتدحرج، فالفلسطينيون سيظلون يتكاثرون، وسيظلون يمارسون المقاومة بشتى السبل. ما يعني أن الصراع سيظل مفتوحاً وطويل الأمد، فلا إسرائيل ولا الفلسطينيون تمكنوا من حسمه.
وما هو مطلوب من الفلسطينيين تثبيت وجودهم الوطني فوق أرضهم، وتعزيز صمودهم، وتواصل مقاومتهم، والخروج من فكرة انعدام الخيارات، أو حصرها في بوتقة أوسلو. وقديماً قال جابوتنسكي عند طرحه فكرة الجدار الحديدي لتطويع الشعب الفلسطيني: «كل شعب سيحارب المستوطنين طالما بقي لديه بصيص أمل في التحرر».. هكذا فعل الفلسطينيون على مدار القرن المنصرم، وما زالوا يفعلونه كل يوم.
الكتاب قيّم، ومليء بالمعلومات والخفايا التي كنا نجهلها، وبالأحداث التي كدنا ننساها، وكان التذكير بها مهماً لإعادة قراءة وفهم التاريخ من جديد.. وهو كتاب تحليلي يغوص عميقاً ويصل إلى مناطق غير مطروقة، فهو ليس مجرد كتاب سردي.. صحيح أن بعض الأحداث المهمة لم ترد في الكتاب، ربما لأن الكاتب تعمّد إغفالها، لأنها من وجهة نظره لا تأتي في السياق العام لتوجّه الكتاب، فهو كتاب أكاديمي غير منحاز سوى للحقيقة، وليس كتاباً تحريضياً، إلا بقدر ما يحرض على رفض الظلم والاحتلال.. وهو بعيد كل البعد عن أي طرح شعبوي أو أيديولوجي، ولا يحمل أحكاماً جاهزة.
ومع أنه مليء بالتفاصيل الدقيقة، ويسهب بالشرح، وأحياناً بالتكرار، لكنه إسهاب ضروري، خاصة للباحثين، ولمن يريد أخذ العبر، فالمواضيع المطروحة مهمة وكثيرة، ومن غير المعقول المرور عليها بسهولة وتسطيح، هذا ضروري للتاريخ، وللحقيقة العلمية، وتحتاج كاتباً محترفاً بثقافة عالية، وهي المهمة التي تصدى لها علي الجرباوي باقتدار وحرفية.  
بقي أن نقول: إنّ الكاتب قدم تحليلاً وسرداً مفصلاً عن محاولات إسرائيل طرد الفلسطينيين أو حصرهم في بوتقة الحكم الذاتي. ولا شك أنه وُفّق بذلك، بيد أنه لم يذكر أي جوانب إيجابية لـ»أوسلو» التي أنجبت السلطة الوطنية، ربما لأن الكتاب توقف عند مرحلة توقيع الاتفاقية.
الأمر الآخر، أن فكرة الحكم الذاتي تقوم على تفريغ الأرض من السكان تدريجياً، والتحكم بمن بقي منهم عبر وكيل إداري، وضم الأرض.. إلا أن «أوسلو» عملت على عكس ذلك بطريقة غير مباشرة، فقبل «أوسلو» كان مسار الهجرة الفلسطينية صاعداً (ببطء)، وبعد أوسلو صار العكس. وشواهد ذلك عودة أعداد كبيرة منهم إلى الأرض المحتلة (العائدون وعائلاتهم) وتشجيع الجاليات الفلسطينية في المهجر على العودة، فصمود الشعب الفلسطيني وتثبيتهم فوق أرضهم يتطلب بالضرورة تحسين أوضاعهم المعيشية وتقديم الخدمات الأساسية لهم.. الأمر الذي لم تكن إسرائيل معنية به.
وأخيراً: تقوم فكرة الحكم الذاتي على إنشاء سلطة محلية تجعل الاحتلال ظاهرة غير مرئية، وتحوّله إلى احتلال ناعم.. وهذا لم يتم على الأقل بالصورة التي كان يريدها الإسرائيليون، فالاحتلال لم يتحوّل إلى قوة ناعمة، والشعب لم يعش بهناء وهدوء، وما زال الاحتلال يهاجم ويضرب ويقتل ويهدم بنفسه دون الحاجة «للتنسيق الأمني»، وما زال الشعب يقاوم، ويتكاثر.. ما يعني أن فكرة الحكم الذاتي فقدت مغزاها الأصلي.