وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - بعد مطالبات عديدة، سمحت سلطات الاحتلال لعائلة الأسير وليد دقة بزيارته في مستشفى «برزيلاي» بمدينة عسقلان. وقد أفادت زوجته المناضلة سناء سلامه بأنها تمكنت من زيارته برفقة ابنتهما ميلاد لمدة ربع ساعة فقط، لكنه لم يتحدث معهما بسبب وضعه التنفسي الصعب، حيث كان في غرفة العناية المركزة. وأكدت أن وليد بحالة صحية حرجة، وقد بينت الفحوصات المخبرية إصابته بخثرة دموية في الرئتين، إضافة إلى الالتهاب الرئوي الحاد، ما يبقيه في دائرة الخطر الشديد.
وقد كان الأسير وليد دقة قد نُقل إلى المستشفى بعد تدهور حالته الصحية، نتيجة لمرضه عموماً والأعراض الجانبية للأدوية المهدئة التي يأخذها في أعقاب الكشف عن إصابته بالسرطان قبل سنوات.
والمرض الأخير الذي أصاب وليد هو سرطان نادر لنخاع العظم، وعلاجه دوائي وليس كيماوياً، وبحسب استجابة الجسم للعلاج سيتقرر فيما إذا كانت هناك حاجة لزراعة خلايا نخاع. وعلى إثر نشر الخبر تلقت العائلة اتصالات عديدة من الراغبين بالتبرع، وكان أولهم الأسير زكريا زبيدي من عزله الانفرادي.
يبلغ وليد 62 سنة من عمره، وكان من المفترض أن يتحرر بعد أن أمضى 37 سنة في الأسر، لولا الإمعان في الظلم وإضافة سنتين على محكوميته. وفوق هذا الظلم يعاني وليد من الإهمال الطبي، مثل بقية الأسرى. وإذا لم يتم الإفراح عنه في أسرع وقت، فإن حياته في خطر شديد؛ فعلاج مرضه الوحيد، هو زرع نخاع العظم ويجب البدء بالبحث عن متبرع بشكل فوري.
وكان نادي الأسير الفلسطيني قد دعا إلى أوسع مشاركة في حملة إطلاق سراح الأسير وليد دقّة، وأضاف النادي في بيانه: إنّ رسالة الحملة ومطلبها حرّيّة أسرانا، وعلى رأسهم المرضى الذين يواجهون جريمة الإهمال الطبي الممنهجة (القتل البطيء)، حيث يعمل الاحتلال على استهداف الأسرى جسدياً ونفسياً ومعنوياً.
سأقتبس تالياً نصوصاً إبداعية كتبها وليد في الأسر، وهي منشورة على صفحة «حملة إطلاق سراح الأسير وليد دقة»:
«دوماً كنت أشبّه الحياة في السجن كالعيش داخل عربة قطار مغلقة ودون نوافذ. وحتى تعرف أين وصلت بك هذه العربة، وما المسافة التي قطعتها، أو لتعرف سرعتها، لا بد من أن تحدث ثقباً في الجدار. والكتابة أو الرسم هو إحداث ثقب في الجدار. وردود الفعل التي أتلقاها على ما أنتجه الثقب هي مشاهد الطبيعة التي أراها من خلاله: الجبال والأشجار، وهي التي تحدد لي زماني ومكاني وسرعتي. دوماً هناك، داخل العربة، متمرسون في «السفر»، يقرؤون نصك، ويقولون لك أين وصلنا، وما سرعة القطار. لكن هؤلاء المتمرسين يبقون مسافرين مثلي، ودوماً أحتاج، ليس لتقدير، وإنما لمشهد يأتيني من خارج الزمن الموازي».
ويضيف وليد: «أعتقد أن الشوق والحنين هو القاسم المشترك لكل الفلسطينيين، بل أكاد أقول: إن الشوق للأماكن أصبح مكوّناً من مكونات الهوية الفلسطينية. اللاجئ يشتاق لبلده ويريد أن يعود، والأسير أيضاً يشتاق لبيته وأهله وحارته. لكننا في الحقيقة نشتاق للذاكرة التي تحملها هذه الأماكن، وعودتنا إليها هي عودة إلى الذاكرة، ولكنني أعي أن هذه الأماكن تغيّرت بعد مرور السنوات الطويلة، ولم تعد تحمل الذاكرة نفسها، كما أدرك أيضاً أن الحداثة والعولمة سلّعت كل شيء، وصارت إمكانية العودة إلى الذاكرة كما نتخيلها مسألة مستحيلة. هل يعني هذا أنني تخليت عن العودة والتحرر؟ بالطبع لا، ولكنني لا أريد العودة إلى فلسطين الماضي، فلسطين الانتدابية حيث الصبار والرمان وطواحين الماء، لأنها ببساطة غير موجودة إلا في الذاكرة. عندما تصبح فلسطين رومانسية، يغدو حق العودة طوباوياً، وهذه الرومانسية للعودة تبعدنا عن العودة نفسها. أنا أريد العودة إلى فلسطين المستقبل التي لا بد أن تتطابق فيها الهوية الوطنية الجامعة مع جغرافيا الوطن الكامل».
وفي لحظة شوق مفعمة بالحزن، كتب لأمه: «أنا وأمي حبّتا رمل في ساعة الرب. أنا وأمي أسيران بين البرزخين: برزخ الأحياء، وبرزخ الأموات. أنا وأمي طفلان فقدا تذاكر العودة في محطة قطارات كبيرة، وبقيا على الرصيف عالقَين بين ماضٍ لا يتذكرنا، وغدٍ تحدّق به أمي في سقف غرفتها، تماماً كما أحدّق الآن في سقف زنزانتي، فترى على امتداد المدى بياضاً، وصوت صفير فارغ موحش».
وفي نص إبداعي آخر يقول: «هنا، زماننا غير زمانكم، فالزمن عندنا لا يسير على محور من ماضٍ وحاضر ومستقبل. وزماننا الذي يجري في ثبات المكان أسقط من لغتنا مفاهيم الزمان والمكان العاديين، أو أربكهما وفقاً لمعاييركم، عندنا لا نسأل: متى، وأين نلتقي مثلاً، بل نحن قد التقينا وما زلنا نلتقي في نفس المكان. نحن نسير هنا بمرونة ذهاباً وإياباً على محورَي الماضي والحاضر، وكل لحظة ما بعد لحظة الحاضر هي مستقبل مجهول لم نعد قادرين على التعامل معه. وما أشبه حالنا بحال الشعوب العربية، مع الفارق الجوهري، بأنّ احتلالنا أجنبي وسجانهم عربي، هنا سُجنّا لأننا نبحث عن المستقبل، وهناك دُفن المستقبل حياً».
«ليس السجن بأسواره وأسلاكه الشائكة هو الذي يأسرنا فحسب، ولو سألتموني ما أهم استخلاص لك خلال هذه العقود الأربعة التي أمضيتها في السجن، لقلت: إننا فقدنا فلسطين ليس لأننا ضعفاء، وإنما نحن ضعفاء بفعل الجهل، ومنقسمون بفعل الجهل. الجهل هو أشد أعدائنا، والجهل هو أخطر السجون، وأنه يحوّل عقلك لزنزانة تحتجز فيها مستقبلك ومستقبل الأجيال القادمة. لم يكن دافعي للكتابة الإبداع، وإنما الصمود داخل الأسر، ولم يكن الصمود ممكناً، كل هذه السنوات الطويلة، دون أن أحرر عقلي من زنزانته رويداً رويداً، وبقدر ما أرغب بالتحرر من السجن، أريد أن أنتزعه مني».
وليد من مواليد العام 1961، وحكم بالمؤبد عام 1986 بتهمة العمل مع منظمة التحرير، تزوج من الإعلامية والمترجمة سناء سلامة وهو في سجن عسقلان 1999، وتمكنا من خلال نطفة محررة من إنجاب ابنتيهما «ميلاد» في شباط 2020. وخلال سنوات سجنه أحرز شهادتَي البكالوريوس والماجستير، وأنجز ثمانية كتب تنوعت بين الدراسات السياسية والروايات.
الحرية لوليد ولجميع أسرانا الأبطال.