أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - الحرب هي أسوأ اختراع بشري منذ أن تخلى الإنسان عن فطرته الأولى وسار في طريق التوحش تاركا إنسانيته التي ميزته عن وحوش البراري، وتمت التضحية بها كقرابين تقدم تباعاً في عالم المصالح الذي يتنامى مع تقدم الزمن وتلك تصبح أكثر تعقيداً ومعها تصبح الحروب أكثر قسوة، ألم يكن بإمكان البشرية حل مشاكلها بالحوار وباللغة دون دماء؟ قد يكون هذا سؤالاً أخلاقياً لا متسع له في عالم السياسة والتزاحم وخصوصاً حين تتسلح بممكنات قوة وجيوش تغريها للاندفاع تنزاح العواطف جانباً.
هي حرب عالمية ثالثة ولكن تطورت أدواتها ارتباطاً بتطور الدول ورفاهيتها وأنواع السلاح وطبيعة المصالح، ولكن حدة الاستقطاب العالمي هي نفسها وميادين الصراع ربما أكثر اتساعاً من توأم سابقاتها. فالحركة التي تدب في معظم العواصم تعكس صخب الحرب، كلّ يتحسس تأثيراتها ويتحسس أكثر نافذة الفرص ومواضع الخسارة، شاءت الظروف أن تكون أوروبا مسرح الحروب العالمية الثلاث، كيف ولماذا؟ يمكن أن توضع عشرات الإجابات لكن الثابت الوحيد أن كل صراعات البشرية حركتها المصالح، وأن الأيديولوجيات لم تكن سوى غطاء للتحريض أو للتبرير. أليست وظيفة الأيديولوجيا الأولى هي التبرير؟
ألمانيا هذه المرة أيضاً لم تكن بمنأى عن بداية الحرب. ففي أيامها الأولى، راج تقرير عن التعاون الألماني الروسي وخط الغاز «نورد ستريم2» وخطورة هذا التعاون الذي قد يتحول ارتباطاً بالمصالح إلى تحالف، وهو ما سيمكن ألمانيا من البروز كقطب دولي خاصة بعد أن استطاعت في العقود الأخيرة أن تكرس مصادر قوة عديدة مكنتها من أن تعود دولة الواجهة في أوروبا والأقوى في الاتحاد الأوروبي ومع امتداد شبكة مصالحها من الصين شرقاً حتى الولايات المتحدة غرباً ربما يعيد للذاكرة جزءا من أسباب حربين سابقتين كانت الطموحات الألمانية أحد أسبابها.
يقول المؤرخون، إن واحداً من أبرز أسباب الحرب العالمية الأولى هو القانون الذي دعا إليه وزير البحرية الامبراطورية الألمانية ألفريد فون، وهو واحد من خمسة قوانين تبنى حشداً بحرياً يتيح للألمان قوة متفوقة على البحرية البريطانية الامبراطورية الأولى ولإدراكهم أهمية الأسطول البحري في حسم نتائج الحروب آنذاك، فرد البريطانيون ببناء مزيد من السفن. وكان وزير البحرية الألماني يدغدغ طموحات القيصر «ويلهلم» الذي كان يستند على وحدة ألمانيا التي حققها مستشاره بسمارك وقاد انتصارها على فرنسا خلال حرب السبعين عاما. ومن هناك بدأ التنافس ببناء الأساطيل ممهداً لأول صدام عالمي بهذا المستوى والذي كان يهدف لوضع حد لطموحات ألمانيا.
الحرب العالمية الثانية أيضاً، كانت ألمانيا وتطلعاتها هي السبب الأبرز لها، فقد هزمت في الحرب العالمية الأولى وأرغمت على التوقيع على اتفاق فرساي المذل والذي لم تخسر فيه مستعمراتها الخارجية فقط بل أيضاً خسرت جزءا من أراضيها لصالح فرنسا، وهو الاتفاق الذي تسبب تحت وقع المهانة بإحياء النزعة القومية ممهداً الطريق للنازي لقيادة البلاد والذي كرس كل جهود الأمة الألمانية نحو التصنيع العسكري والتدريب تجهيزاً للحرب، فاجتاح تحت وقع القوة إقليم سوديت غرب تشيكوسلوفاكيا معلناً الحرب على أوروبا والتي تجندت ومرة أخرى لوضع حد للطموحات الألمانية.
هذه المرة وبصرف النظر عن الأسباب الكثيرة للحرب، بالتأكيد في الصراعات البشرية دوما ما يكون أسباب عدة، وبصرف النظر عن الحديث عن الأمن القومي وغيره وفي هذا العصر عصر التكنولوجيا التي تدمر عن بعد والذي أصبحت فيه الصواريخ تصل عن بعد آلاف الكيلومترات، لا يبقى متسع للحديث عن مناطق جوار عازلة أو دول حياد وتبدو المطالبة بإقامتها تعود لأزمنة قديمة. وقد كتب مايك ويتني منذ بداية الأزمة في الحادي عشر من الشهر المنصرم أي قبل بدء الحرب بأسبوعين بأن الأزمة في أوكرانيا ليست حول أوكرانيا بل ألمانيا، مستدعياً المعارضة الأميركية للتعاون الروسي الألماني في عصر ترامب وبعده بايدن الذي أبدى معارضة لخط الغاز بل وأورد عديد الأسباب للمعارضة الأميركية المعلنة لهذا التعاون.
أوقفت ألمانيا خط الغاز الذي كان يفتح نافذة جديدة على المستقبل، لو كانت أنجيلا ميركل في الحكم لتصرفت غير ذلك كما يقول أحد العارفين بالشأن الألماني، بل ربما لتحركت لوقف الحرب نظراً لما كانت تمتلكه من خبرة تمكنها من التأثير على الرئيس الروسي. وقد وقع المستشار الجديد لألمانيا نتاج حداثة التجربة في قيادة دولة بهذا الحجم آخذة في الصعود أكثر ليخرج عن حياد ألمانيا الذي كان له الدور الأكبر في نهضتها وتسيد اقتصادها المتحرر من عبء التسلح ليقرر إعادة تسليحها، وربما أن هذا التقارب الاقتصادي بدأ حتى قبل ميركل في عهد المستشار غيرهارد شرودر الذي أمر العام 2005 بإنشاء خط «نورد ستريم» أواخر أسابيع حكمه وبعد أن أنهى قيادته لألمانيا انتقل لمجلس إدارة شركة «نورد ستريم» ويترأس حالياً مجلس إدارة شركة «روسنفت» الروسية العملاقة للنفط.
تغيرت الحروب مع الزمن، فقديما، كانت الجيوش تجر الاقتصاد إلى الحرب، ثم تطور الأمر وأصبح الاقتصاد وشركات النفط والسلاح هي من تجر الجيوش للحروب. وبات واضحاً أننا أمام تطور أكبر ظهر بشكل جلي في هذه الحرب أن الاقتصاد قد استغنى عن القوات المسلحة ويقود الحرب وحده، يخوض اشتباكاته الشرسة في ساحات معاركه الكبيرة، ومن هنا برزت تكتلات وأحلاف وأعطى هذا متسعاً لدول ضعيفة عسكرياً مثل الخليج العربي أن يكون لها دور في هذه الحرب طالما أن السلاح نُحي جانباً وأن لديها من إمكانيات الحرب الجديدة ما يؤهلها للنزول إلى ساحاتها.
هل كانت ألمانيا المتضرر الأكبر للحرب بعد أوكرانيا؟ لقد حققت ألمانيا الفائض التجاري الأكبر على مستوى العالم وقارب دخلها القومي العام الماضي من 1.4 تريليون يورو بشبكة اقتصادية وتوريدات هائلة، مع روسيا وحدها بلغ تبادلها التجاري 50 مليار يورو، فهي تصدر لروسيا معدات وسيارات وتقنيات وتستورد النفط والغاز. وكان التقارب يزداد أكثر مع خط الغاز الذي كاد يبدأ بعد أن تم تجهيزه ليصاب بالانتكاسة الأوكرانية. فهل يعيد التاريخ نفسه وتعود ألمانيا مرة ثالثة سبباً للحرب العالمية الثالثة؟