أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - يحبس العالم أنفاسه على وقع التسريبات الأميركية الهادئة عن اجتياح روسيا لأوكرانيا، وعلى وقع هدير محركات الدبابات الروسية والسفن التي تزحف باتجاه البحر الأسود. فقد غامرت الولايات المتحدة بتسريباتها بأن الاجتياح الروسي سيتم هذا الأسبوع، وذهبت أكثر بالتحديد وفق موقع «بولتيكو» أن يتم يوم الثلاثاء أو الأربعاء من هذا الأسبوع.
لا أحد يشارك واشنطن هذا التقدير، فأوروبا بدت أكثر تحفظاً تجاه التقديرات الأميركية، فيما أوكرانيا البلد التي تقف على شفير الحرب أكثر هدوءاً في حساباتها؛ معتبرة أن فرص حل الأزمة مع روسيا دبلوماسياً أقوى من مخاطر شن هجوم.
وبين كل هذا الصخب، وبين حافة الهاوية التي يقف العالم على حدها، يبدو تناقض التحليلات أمراً مفهوماً يعكسه التناقض بين تصريحات موسكو المطمئنة، وتحضيراتها العسكرية الضخمة كأنها تتجه غداً للحرب.
الاستعراض بالسلاح عادة يكون بديلاً عن استخدامه، والتلويح بالحرب يكون بديلاً عن وقوعها. ربما هذا ما فعله بوتين مستغلاً اللحظة التاريخية التي تتبدى وتؤهله لإعادة فرض هيبته في أوروبا، وإعادة توزيع ممكنات وموازين القوة في صالحه، وذلك في لحظة انشغال واشنطن بالصراع مع الصين التي باتت تزاحمها بجدارة؛ بعد تحولات لم تكن بالقطع في صالح الولايات المتحدة، التي تلقت ضربة شديدة لهيبتها ومكانتها أثناء ولاية دونالد ترامب قبل حوالى خمس سنوات، كانت خلالها الصين تحضر بهدوء لتزحف نحو أماكن واقتصادات وتطل برأسها كقطب ينذر باستيلاد عالم جديد يريد أن ينهي الاحتكار الأميركي للقوة التي تسيّدت منفردة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود.
يدرك بوتين أنه لا أوروبا ولا الولايات المتحدة بصدد حرب، وكل لأسبابه، سواء بسبب أزمة الطاقة التي تشتد أكثر بعد تراجع التوريدات والانعكاسات المدمرة على الاقتصادات الأوروبية، أو لجهة تلعثم الولايات المتحدة بعدم مقدرتها على منع الدبابات الروسية من الوصول إلى كييف، وهو ما يجعلها في وضع شديد الانكشاف، ويضع حلف الناتو الذي لم يجر حله بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أمام تساؤلات وجودية حول جدوى بقائه في ظل عجزه عن منع احتلال أوكرانيا.
ولكن بالمقابل يدرك الكرملين، كما تدرك الدول المراقبة، أن بوتين إذا ما أقدم على مغامرة الاجتياح، فلن يكون الأمر بالسهولة التي قطعت فيها معدات الحرب الطريق نحو الحدود الأوكرانية، لأن هناك سلسلة عقوبات ليست سهلة تهدّد بها الولايات المتحدة، سيكون الهدف منها ضرب الصناعة الروسية الحيوية مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الحكومية والفضاء، وستحرم الصناعات الروسية من مكونات التكنولوجيا الفائقة التي لا يمكن استبدالها من موردين بديلين. وهذا بدوره سيؤدي إلى إضعاف الاقتصاد الروسي بشدة حيث سيمس بالطموحات الإستراتيجية للرئيس الروسي، ما ستكون له انعكاسات سياسية على الداخل الروسي، وهو ما لا يريده سيد الكرملين.
لذا يعتقد البعض أن التسريبات الأميركية، التي تعززها اللعثمة الأميركية، ربما تفتح شهية الرئيس الروسي للاجتياح، خاصة بعد أن رفضت الولايات المتحدة الشروط الروسية، ما يعني رغبة أميركية لاستدراج روسيا للوقوع في كمين لن تخرج منه بالقوة التي يريدها بوتين، من خلال احتلال يواجه مقاومة سيشعلها اليمين القومي الأوكراني قد تنهك القوات الروسية، يضاف إليها عقوبات أميركية ودولية تزيد من إنهاك روسيا.
بوتين رغم الضجيج ليس مغامراً إلى هذا الحد، ويدرك تبعات الحرب. فقد تمكن حتى الآن من تحقيق جزء مهم من أهدافه حتى قبل أن يطلق رصاصة واحدة، فقد تمكن من هزيمة التيار الانفصالي عن روسيا داخل أوكرانيا، وذلك بوقوفه وحيداً بالمعنى العسكري في مواجهة القوات الروسية، وأن الناتو لن يحرك جيوشه دفاعاً عن بلادهم، أما على الصعيد الأهم، وهو أن أوكرانيا لن تكون جزءاً من الناتو بأي حال، وهذا ما كان يريده، بالإضافة إلى أهداف أخرى تتعلق بتغيير جزء من النتائج التي نشأت بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي.
ولكن هل هذا يكفي لعرقلة الحرب وعودة القوات الروسية؟ بالتأكيد لا. فالموقف الأميركي وعلى تردّده لم يترك للرئيس الروسي خط رجعة؛ لأنه لو عاد دون اتفاق فهذا يعني أن كل الإنجازات التي تحققت الآن دون حرب ستضيع سدى. وبهذا أصبحت روسيا في وضع ليس سهلاً وبحاجة إلى مخرج، وإن جرت محاولات أوروبية للبحث عن حل، لكن المفتاح الأميركي حتى اللحظة يدفع باتجاه التسخين وتوريط كل الأطراف. فقد جرت حربان عالميتان في أوروبا كان المستفيد الوحيد منها الولايات المتحدة، ففي الأولى عادت سفنها غرباً محملة بخزائن الذهب نظير خدماتها في حسم الحرب، وفي الثانية حملت المؤسسات الدولية إلى ولاياتها وتسلّمت قيادة العالم.
وما بين الروسي الذي يلوّح بالحرب ويخشى عواقبها، وما بين الأميركي الذي يقف متصلباً، أصبحت الأزمة عالقة وربما لا تسمح لبوتين بالتراجع، وهو ما تشير إليه بعض التقديرات بأن الأزمة قد تأخذ بعداً مختلفاً إذا بقيت المواقف متصلبة، وقد بدأت بهجوم روسي إلكتروني على المنشآت الأوكرانية، وإذا لم تحدث انفراجة - وقد باتت ليست قريبة في ظل الرغبة الأميركية بالتسخين وتوريط روسيا - قد تضطر الأخيرة مرغمة إلى ترجمة هذا الاستعراض بقصف مركز أو حتى بدخول محدود لمدن حدودية تقطنها غالبية روسية لا تجد فيها روسيا مقاومة، وأصدق القول: إنه لا أحد يعرف كيف يفكر بوتين. ولكن الأزمة باتت عالقة وسط صراع إرادات بات يتربص فيها كل طرف بالآخر، ويعتبرها فرصته لقواعد بات يظن أن المناخات تدحرجت باتجاهها..!