عيسى قراقع - النجاح الإخباري - بعد 36 عاماً داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي يتفتح عشب جبال الخليل وبيت لحم في أضلاع الأسير المناضل محمد الطوس أبو شادي، يروي سيرة هذا الشعب المبلل بالدم والماء وبنباتات وفصول وأمواج وحنطة فلسطين، ليطل علينا بكتابه عين الجبل في أول المطر وأول الطين ليكون للجبال عيوناً تحرس المستحيل، وللشجر صوتاً يسحب الغيوم إلى الغيوم.

استيقظ ابو شادي من الموت عام 1985 بعد مطاردة طويلة وملاحقة من جنود الاحتلال، لم يصدق الناس أن الشهيد ينهض من المجزرة يحمل بندقية ويقفز كحصان في براري وسهول قريته الجبعة، خبأته دوالي العنب وكان أباً للنبات وللشجر، يوقظه الفجر ويسوقه الى الاشتباك مع دوريات وجيش الاحتلال، انه المقاتل الانسان، الحقل والبيت والفجر والفلاح، عاشق التراب والصخر والحصى وشجر الرمان والمفاجآت.

هذه النصوص سطرتها أيادٍ خضراء، نصوص كسرت القيود وقفزت عن الأسلاك والجدران بعد غياب طويل، نصوص أكبر من سيرة شخصية، حكايات الفدائيين المناضلين الذين حملوا ارواحهم على أكفهم وقاتلوا من أجل حرية وكرامة الشعب الفلسطيني، حكاية أصدقائه الشهداء رجال الجبال الذين غرقوا في دمهم في تلك الجريمة النكراء التي ارتكبتها سلطات الاحتلال بحقهم، الشهداء: علي خلايلة ومحمد غنيمات ومحمود النجار ومحمد عدوان، حكاية من أقاموا له بيت العزاء وهو لا يزال على قيد الحياة، حكاية من حمل جروحة النازفات وتعذب في أقبية التحقيق وصمد على أشواك الصبار وفي عتمة الزنازين الموحشة.

كان جسده الأرض، لهذا لقبوه العنقاء حيناً ولقبوه بالقربان حيناً آخر مرفوعاً عن قلبه النابض وفكرته العالية.

الأسير محمد الطوس أبو شادي يوثق في هذا الكتاب تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، الشهداء والأسرى والمطاردين والجرحى والمبعدين، تاريخ الكفاح المسلح والخلايا السرية وقصص المغر والسهول والتلال والمقاومة والشجاعة والبطولة، تاريخ شعب لازال يقاتل من أجل الحرية والاستقلال.

كان النضال هو حياة أبو شادي وأصل هذا النضال في سبيل الحرية حتى آخر رصاصة وآخر شهقة للموت.

لم يسلب السجن من محمد الطوس حريته رغم مرور هذا الزمن المخيف خلف قضبان سجون الاحتلال، سنوات وسنوات من القمع والتحدي والدفاع عن إنسانية الإنسان في وجه سياسات ومخططات سحق وتدمير هوية الإنسان الأسير ومحاولات تحويله الى مجرد رقم او شبح في أعماق النسيان، يواصل محمد الطوس النضال بشموخٍ من داخل قلعة العدو، صمود وارادة ويقين وإيمان بحتمية النصر والحرية، لقد تجاوز مع زملائة الأسرى حد الأسطورة بمقاومتهم طغيان السجن وهمجية السجان وأنظمة قمع الاحتلال.

لم يفرج عن أبي شادي في عمليات التبادل ولا في الصفقات ولا في المفاوضات، انتظرته زوجته أم شادي على بوابة قريتة الجبعة سنين طويلة، كبر الأولاد وهم يتطلعون الى سفوح الجبال.. توفيت أم شادي التي انتظرته في غيبوبتها أكثر من عام لعله يعود ويوقظها ويطلق قوته الجبلية في روحها قبل ان ينتهي العمر دون وداع.

لم يستسلم أبو شادي لليأس برغم الكثير من الإحباطات والتساؤلات والأحزان وعجز العدالة الدولية عن إنقاذ الإنسان الأسير وكسر أغلال السجان، رفض أبو شادي أن يحوله السجن الى تحفة سياسية متحجرة قد عفا عليها الزمن، فلا زالت عين الجبل مفتوحة ومتيقظة، يتابع ويشارك أبناء شعبه كل همومهم وقضاياهم ومعاركهم، يلقي حجراً ويحمل فأساً ويحرك زناد البندقية.

لا يلمس القارئ أن أبا شادي يشكو من أي شيء، فهو في السجن يتعلم الكفاح والنضال في سبيل قناعاته ومبادئه الوطنية، لا يدخل في معارك شخصية صغيرة، لازال فوق الجبل، الوطن يحتل كل وجدانه ومشاعره، نجده في كل المراحل حاضراً، يعتصره الألم تارة والفرح تارة أخرى، يفجعه الانقسام الداخلي وغياب الوحدة الوطنية، لم يفكر بالخلاص الفردي، كل همه تعزيز القضية التي ناضل من أجلها وضحى الآلاف في سبيلها مهما كان الثمن الذي يدفعه كفرد.

عين الجبل تقول ما قاله الشاعر الألماني برتولد بريخت أن معاناة الجبال من ورائنا والام السهول من أمامنا، ترى هذه العين الأرض تنهب وتسرق وتجرف، عين مجروحة لا ترمش، في داخلها الاف الأسرى المحشورين في السجون تراقب أعمارهم المقصوفة وأجسادهم الذابلة.

عين الجبل تنزف دما على وطن يتحول الى سجن وقفص ومناطق معزولة، نظام أبرتهايد عنصري وبشع، عين القدس تطوقها المستوطنات والجدران والبنادق والاعتقالات التي طالت روح الصلاة.

عين الجبل تتابع منذ 36 عاما الأحداث السياسية، شاهدت كل الحروب والنكسات فامتلأت بالدخان والغبار، لم تنطفئ هذه العين لا في حر الصيف ولا في برد الشتاء، تتمنى أن تغفو قليلا وتصحو على مصير شعب ترسم آفاقه الوان العلم الفلسطيني وترقص على نشيده الوطني كل الطيور في أعالي التلال، تتمنى أن تتحرك أغصان الاشجار وتعصف الرياح وتفيض آبار المياه وينتفض الرجال.

عين الجبل هي عين البلد وتاريخه ومقبرته وجنازته وتقاليده وأعراسه، فيها الرؤية الثاقبة، شهداء يسقطون أمامها سنة وراء سنة في السجون، جثث تغسلها دموعها ويد الله الحانية، يقظة يقظة رغم العتمة والبطش والمداهمة، يقظة يقظة ترابها تبلله الينابيع والدماء الساخنة.

عين الجبل تنتقل من مكان الى مكان، أمكنة بينها رابط من الأحداث المتواصلة، زمان لا ينقطع رغم فراغ السجن و تأخر ساعة الميلاد، وتبقى عين محمد الطوس تلمع فيها ضغط المخاض، هي ضغط الجبل في صخرة، هي ضغط العين في جمرة، هي ضغط الربيع في زهرة، هي ضغط الارادة في ثورة.

محمد الطوس لا ينام، عينه فوق الجبل، ذخيرته تحت الدالية ودمه تنفحه زهرة الرمان على المدى، يقول: كل الانتفاضات من صنع الجبال تنهمر كالأنهار الى منحدر، عذابات شعبي لا تموت، عين فيها كل ما تعذب وظلم وانقهر، عين يفجر ملحها كل هذا الصمت، غضب قادم لا يبقي ولا يذر.

 

نقلا عن صحيفة القدس