النجاح الإخباري - يوحي الوجه الدولي الإنساني البارز والمتعاطف والطبيعي والمشكور في التدفق والاهتمام بكارثة بيروت وبأكثر من دليل إلى أنّ عاصمتنا محبوبة ومحضونة من قلوب دول العالم، وأنّ العين العالمية تسهر على اللبنانيين بعد الانفجار في مرفأ بيروت في 4 من الشهر الجاري مخلّفاً 175 قتيلاً وستة آلاف جريح وعدداً لم يعرف بعد من المفقودين بالإضافة إلى الأحياء المدمّرة ومئات ألوف المشرّدين والبيوت المهدّمة. لكنّ التدقيق في التفاصيل وردّات فعل الدول يدفعني إلى التحديق السياسي الناقد والجريء والمستمرّ في سلوك بعض الدول الذي يفسّر ما قد يتجاوز المشهد الدامي العام إلى ظاهرة السباق التركي مع فرنسا ركضاً نحو لبنان. من الباب، تبدو تركيّا أردوغان وكأنّها أدمنت دوران محركاتها خارج تركيّا وفي كلّ اتّجاه فاتحةً حدود الرقص في الشرق الأوسط وتوظيف الفرص تحقيقاً لملامح أو مصالح وموائد عثمانيّة قديمة تتظهّر ويعسر هضمها.

قد يقول قارئ أنّه من المبكر التنبيه إلى هذا الأمر وكلّنا ما زلنا مقيمين في الجرح اللبناني العظيم، لكنّني وأنا أبحث عن سياج للبنان ولو من شوك، ألفت من دون أيّ تبريرٍ وبكلّ عقلانية إلى أمرين:

1- وقع الانفجار الكارثي يوم الثلاثاء في 4 أيلول، وبعد مرور يومين وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مباشراً زيارته الشعبيّة قبل الرسمية، إذ انتقل مباشرة من المطار إلى موقع الانفجار ثمّ إلى شارع مار مخايل معانقاً ومواسياً بنصف زيارته منكوبي أحياء المدوّر وساسين والأشرفية والداون تاون قبل أن ينتقل إلى قصر بعبدا ثمّ إلى قصر الصنوبر للاجتماع برؤساء الأحزاب والكتل النيابية. في اليوم التالي أي في 5 منه أعلن أردوغان تركيا إرسال نائبه فؤاد أقطاي ووزير خارجيته مولود أوغلو، إلى تعليمات عاجلة بطائرة مساعدات وصلت لبنان وفرق بحثية وتعليمات جديدة بإرسال طائرة ثانية.

2- تعيدني هذه الغيرة التركيّة إلى أبعادٍ أخرى من العلاقات المعقّدة جدّاً بين فرنسا وأوروبا وتركيّا بل إلى تسابق وتزارك تركيّا مع العديد من الدول العربيّة وغيرها في الشرق الأوسط. أذكّر بقيام الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في 15 أيلول 2011 بزيارة طرابلس الغرب في أول زيارة رسمية لهما إلى ليبيا بعد سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي. اعتبرت تلك الزيارة المشتركة يومها الأولى على هذا المستوى لليبيا التي شهدت أكبر عمليات عسكرية لحلف شمال الأطلسي ساهمت في الإطاحة بالنظام الليبي السابق ووصول المعارضة الليبية إلى السلطة. وبعدها بيوم واحد زار رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء آنذاك، ليبيا مزاركاً فرنسا وقد لفتت هذه المنافسة أنظار العالم كله، ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، بل تلتها تحديات تنافسية تركية عند قيامها بالبحث عن الغاز قبالة سواحل قبرص في الوقت الذي كانت حكومة قبرص اليونانية أوكلت إلى الشركة الفرنسية توتال بالبحث عن الغاز واستخراجه إلى وقائع تنافسية تركية أخرى لا عدّ لها.

ولنكتبها بصراحة مطلقة: حلول ماكرون بالشكل والمضمون ظهر لافتاً وعاطفياً وطبيعياً وتاريخياً لمعظم اللبنانيين خلع فيه سترته ورسميّاته بما سهّل فهمه من رئيس يسمّي اللبنانيون، وخصوصاً المسيحيين منهم، دولته فرنسا «الأم الحنون». وهنا جملة توضيحية معترضة: يتناول العديد من المسلمين، وخصوصاً مثقفي الشيعة منهم، قبل الانفجار وبعده، كما نلحظ في وسائل التواصل الاجتماعي، تقريعاً أو نقداً لتلك التسمية التي سرت فوق اللسان الشعبي قبل مئة سنة أي منذ إعلان دولة لبنان الكبير في 1 أيلول 1920 والذي لن يتمكّن اللبنانيون من الاحتفال بمئويّته في أوائل الشهر القادم. يمكن الإشارة موضوعيّاً وللإنصاف أنّ فرنسا العلمانية ومنذ الهجوم الإسرائيلي على لبنان في تمّوز 2006 قامت بل حوّلت أيضاً الاهتمام محليّاً ودوليّاً وفي الأمم المتحدة والقرار الدولي 1701 وكأنّها الأم الحنون لكلّ  لبنان من حيث مساعداتها وحضورها المستمر على مختلف الصعد.

3- من المنطقي أن يفتح اللبنانيون عيونهم ويتفحّصوا الأيدي التي تمتدّ إليهم وهم منهمكون في جراحهم إلى التنافس التركي اللافت مع فرنسا والعرب القائم في أكثر من ميدان. سيقوى هذا التنافس في لبنان بصفته ساحةً منكوبة مدمّاة، وهو قد يرتّب علينا أعباءً ثقيلة لا يتحمّلها اللبنانيون تحت عنوان مدّ يد المساعدة. يقوى النشاط التركي في لبنان، منذ زمنٍ غابر قبل الانفجار، ويتخّذ أشكالاً متنوعة، تصبّ جميعها في تمتين النفوذ التركي داخل بيئاتٍ محددة في لبنان، وتنشط السفارة التركية في بيروت، بحثاً عن اللبنانيين من أصول تركية وتركمانية، لتشجيعهم على الحصول على الجنسية التركية وبحثاً عن رجال الأعمال والتجار اللبنانيين والأتراك للعمل سريعاً بتغطية النقص الحاصل اليوم بسلع تركية تتناسب مع القدرة الشرائية المتهالكة للبنانيين، إضافة إلى حملات تشجيع اللبنانيين الراغبين الاستثمار في شراء العقارات حالياً وغيرها من الوقائع التي تظهر لبنان فعلاً ساحةً بلا سياج.