النجاح الإخباري - ميرفت عوف - يبدو المشهد  الذي كثيرًا ما استحضرته السينما العربية،  مشهدًا حقيقيًّا في إسرائيل،  فأشخاص كثر  منهم يحاولون مقابلة «مشعوذ» من الحاخامات، هؤلاء ليسوا من طبقة واحدة بل من جميع الطبقات، الناس العاديون وعناصر من الجيش الإسرائيلي وكبار السياسيين.

يقوم علماء ما يعرف بـ«القبالاه» بطقوس السحر الأسود والشعوذة والعرافة، إذ ينتمي جميع الحاخامات لهذه الحركة التي تتمتع بتأثير واسع في المجتمع الإسرائيلي، يقومون بصنع الأحجية والأعمال السحرية، وتوزيع التبريكات على الجميع، ويقومون أيضًا بتحضير الملائكة الخدم في اليهودية وتسخيرهم لإيذاء الآخرين، ويزعمون تمكنهم من استحضار قدرة الإله من خلال قراءة ورد معين، مثل: «بنوئيل الذي يرى وجه الإله، وجبرائيل وهو قوة الإله وعظمته، ورفائيل الذي يشفي المرضى».

الشعوذة في المجتمع الإسرائيلي

يتواجد أمام منزل أكبر حاخام متخصص في الشعوذة وهو "بابا باروخ" الكائن في بلدة «نتيفوت» بمنطقة النقب، عشرات الإسرائيليين الذين يأتون لمعرفة الغيب أو إيجاد حل لمشاكلهم، تسمي وسائل الإعلام الإسرائيلي هذا المكان بصفة «بلاط»، بسبب مكانة الحاخام في نفوس الإسرائيليين، يكسب الرجل شعبية كبيرة في قراءة الحظ وادعاء معرفة الغيب، ولم يقتصر الأمر على المتدينين اليهود، فعدد كبير من العلمانيين ومن مختلف الطبقات يأتون لباروخ، كما تتواجد فيه الشرطة الإسرائيلية لكثرة المتواجدين.

يوضح تحقيق أعدته القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، أنَّ «معظم زبائن باروخ هن من النساء، وتحديدًا العوانس اللواتي يبحثن عن عرسان، إذ تنطلق حافلات من المدن الكبرى بمئات العوانس في الأوقات التي يخصصها الحاخام لاستقبال الزبائن»، وتظهر أرقام نشرها موقع «والا»الإسرائيلي أنَّ «نحو 500 ألف من مواطني إسرائيل يذهبون سنويًا إلى قبر الحاخام "شمعون بر يوحاي"، حيث ينتشر أصحاب البسطات الذين يبيعون التمائم ويقترحون على الناس الخلاص من المشكلات، والحلول لكل ما يحتاجونه، ولكل تميمة تعويذة خاصة بها، فهناك تعويذة للكسب وأخرى للزواج، بل إنَّ هنالك تعويذة للفوز بورقة اليانصيب».

يوضح الباحث في  مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة – نبيه بشير، في بداية حديثه لـ«ساسة بوست» حقيقة تعزيز الدين – بمؤسّساته وحركاته وأحزابه وجمعياته الأهلية ونشاطاتها – في المجتمع الإسرائيلي منذ منتصف السبعينيات، وبصورة أكثر تسارعًا منذ مطلع التسعينيات. إلى جانب تعزيز التأويلات القومية/ الصهيونية والعرقية لمفهوم الهوية اليهودية في العقود القليلة الأخيرة، ويضيف: «تعزّز كذلك تياران باطنيان في المجتمع الإسرائيلي بين العامة والخاصة على السواء. فقد تعزّز الدين الشعبي الذي طالما كان حاضرًا إلى جانب التأويلات اليهودية الأرثوذكسية (وهي تأويلات تركّز على الشرائع والفرائض)، وهو دين شعبي طالما عزا قوى إلهية للحاخامات وسعوا إلى الحصول على «بركاتهم»، في حياتهم وحتى بعد مماتهم (وذلك من خلال زيارة القبور)، أما التيار الثاني فهو يكمن في ما يطلق عليه تعبير "قبالاه"، وهو عبارة عن تأويلات شبه صوفية (باصطلاحات إسلامية) غير عقلانية بتاتًا تسعى إلى الكشف عن خفايا الخطط الإلهية من خلال أمور غامضة وأحلام رجال الدين وغيرها من الترهات والخرافات»، ويشير "نبيه" إلى أنَّ التيار الثاني شائع أكثر بين اليهود الغربيّين الإشكناز أكثر منه بين الشرقيّين.

وتعتبر واحدة من أشهر العرافات في المجتمع الإسرائيلي،  المشعوذة «باتيا شنيورسو» التي كانت قريبة من عائلة رئيس الحكومة الأسبق أرييل شارون، وكانت زوجة شارون «ليلي» تستشيرها في الخطوات الخاصة بالعائلة، وذكرت صحيفة «معاريف» أن هذه العرافة هي من تنبأت بمصير شارون، و«بما سيصيبه من سكتة دماغية تمنعه من الترشح لرئاسة الحكومة، وقد أبلغت زوجته بذلك قبل أن يدخل في غيبوبته بفترة طويلة».

السحر الإسرائيلي قتل عبد الناصر!

«أحضرن كبد بهيمة، وقلبها ورئتها، وقرر الثلاثة قتل عبد الناصر عقابًا له على الكوارث التي حلت بإسرائيل نتيجة مواقفه السياسية» هكذا تحدث رئيس الأكاديمية  التلمودية العليا الحاخام «بنياهو شموئيلي» في العام (2009) عن استخدام ثلاثة حاخامات للشعوذة والسحر الأسود لقتل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، في الـ(28 من سبتمبر (أيلول) العام 1970).

ولأن «عبد الناصر كان مسؤولًا عن تحريك رتل من الدبابات العراقية والجنود الكويتيين والجزائريين والسعوديين نحو حدود إسرائيل» حسب شموئيلي «فقد أخذ الحاخام شاؤول دافيد والحاخام إسحق كدورى (100) مسمار صلب، وشرعوا يغرسونها في قلب البهيمة، وكانوا يرددون بعض الكلمات المبهمة مع كل مسمار يغرسونه في القلب، وفي النهاية وضعوا القلب على موقد طبخ لمدة ثلاثة أيام حتى تفحم تمامًا، وصار أسود اللون ولا يمكن التعرف عليه. بعد ذلك دفنوه، وأعلنوا لتلاميذهم أنَّ عبد الناصر مات.

أيضًا في العدوان على قطاع غزة العام (2008)، أوردت صحيفة «يديعوت أحرنوت» الإسرائيلية أنَّ أهم الحاخامات الشرقيين والزعيم الروحي لحركة شاس «عوفاديا يوسف» قال: إنَّ الأم راحيل، والدة النبي يوسف، جاءت لمساعدة جنود إسرائيل في غزة، إذ وصل الجنود إلى منزل وأرادوا الدخول إليه وكان هناك ثلاثة من حماس في الداخل ينتظرون، لكن ظهرت امرأة جميلة شابة أمامهم وحذرتهم بألا يدخلوا البيت حيث يوجد فيه إرهابيون، وسألها الجنود من أنت فردت لماذا الاهتمام بمن أكون، وهمست أنا راحيل، ولاحقًا تبين فعلًا وجود مقاتلين من حماس في البيت»، وحين وصل الخبر إلى الحاخام الأكبر الشرقي لإسرائيل «موردخاي إلياهو» قال: «نعم صحيح أنا أخبرتها أنَّ هناك حربًا، وطلبت منها أن تذهب وتساعد الجنود؛ لأنَّ أبناء إسرائيل يضربون ولا يُضربون".

لم يتعلق الأمر بأمور السياسة فقط، ففي التصفيات المؤهلة لبطولة يورو (2016)، سجلت لقطة مصورة على  أرض الملعب قيام لاعب إسرائيلي بحركات السحرة والدجالين بغية منع نجم ويلز وريال مدريد الإسباني «جاريث بيل» من التسجيل من ركلة حرَّة مباشرة، كما لم يكن الفن في إسرائيل بعيدًا عن الشعوذة، ويسجل هنا قضية شهيرة خاصة بمطرب إسرائيلي من أصل يمني يدعى «دودو أهارون» استعان بحاخام من بئر السبع للإصلاح بينه وبين والدته، وذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنَّه بعد حفل بركة، ووضع الحاخام الشهير «بوسترًا» للمطرب أمامه، أخذ يتلو عليه عبارات، وبعد كل بضع عبارات، يمسك بقصاصة ورق مكتوب عليها اسم المطرب ويلقيها في الهواء، وفي نهاية الأمر، جعل الابن يرسل باقة من الورود إلى أمه في عيد ميلادها».

الإسرائيليون ذهبوا لـ«مشعوذين» عرب

انطلقت في العام (2009) جولة انتخابات برلمانية إسرائيلية عامة، كان أهم ما يميز هذه الانتخابات تصدي حركة  «شاس» الدينية اليمينية المتشددة لمنافسها حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني بالشعوذة، استعانت الحركة خلال جولات الدعاية الانتخابية بأكبر حاخام متخصص في الشعوذة بين اليهود الشرقيين والغربيين هو «بابا باروخ» الذي ورث الشعوذة عن والده اليهودي المصري المعروف بـ«البابا سالي»، قام باروخ بتحذير الإسرائيليين من التصويت لزعيم «إسرائيل بيتنا» أفيجدور ليبرمان، بينما منح الحاخام عوفاديا يوسف تبريكه لكل من يقنع عشرة إسرائيليين بالتصويت لحزبه شاس في الانتخابات.

يمكننا أيضًا ذكر قصة مشهورة إسرائيليًا تتعلق بمشهد عرضه التلفزيون الإسرائيلي لرئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الخارجي (الموساد) الأسبق «داني ياتوم»، وهو يدخل منزل أبرز حاخامات الشعوذة في القدس المحتلة الراحل كدوري، وكان هدفه حسب المصادر الإسرائيلية «معرفة مستقبله بعد أن تقاعد من الموساد وقرر خوض غمار السياسة».

يوضح مدير معهد مسار للأبحاث بحيفا "خالد أبو عصبة"  أن تباين المجتمع الإسرائيلي يظهر أنَّ الأرثوذكس الشرقيين يؤمنون بالشعوذة والسحر أكثر من الغربيين، ويضيف: «المتدينون الحرديم كجماعة شاس يؤمنون بالشعوذة ويذهبون لقبر أبو حصيرة وحياتهم مليئة بالخزعبلات، أذكر أنَّه في الماضي كانوا يذهبون لفتاحين (مشعوذين) عرب من أجل الشعوذة»، ويفسر أبو عصبة خلال حديثه لـ«ساسة بوست» وصول أمور الشعوذة للجيش الإسرائيلي بوجود أعضاء كنيست من حركة شاس المتدينين الأرثوذكس الذين اعتادوا الحصول على المباركة والفتاوى من الراب، فهم قوة سياسية موجودة في الجيش.

الشعوذة في الجيش الإسرائيلي

«الاستعانة بالمشعوذين تتم على نطاق واسع. تمت في عهدي وفي الفترة السابقة عليه واستمرت بعد تقاعدي، كنا ولا نزال نستشيرهم«، هذا ما نقلته صحيفة «هآرتس» عن قائد الشرطة الإسرائيلية الأسبق «إساف حفتس»، ولم يكن الاعتراف الأول بأنَّ الجيش الإسرائيلي  يستعين بالمشعوذين للبحث عن مفقودين أو غير ذلك، فسبق وأن اعترفت مديرة إدارة المفقودين في هيئة الأركان الإسرائيلية «أوفيرا روتم» بذلك.

فسواء ارتدى عناصر الجيش الإسرائيلي زيًّا مدنيًّا أو عسكريًّا عند الذهاب للمشعوذين تبين أنَّ الجيش الإسرائيلي يعمل بناء على توجيهات بعض المشعوذين، ويعرض عليهم خرائط للإرشاد لتخمين موضع المفقودين، وتستشهد الصحيفة بعدة حوادث استعان بها الجيش بالمشعوذين، كتجربة البحث عن الجندي  الإسرائيلي «نحشون فاسكمان» والجندي «شارون أدري» في عامي (1994 و1996) قبل أن يقتل الجنديان لاحقًا على يد عناصر في كتائب القسام، فقد أوعز مشعوذ للجيش أنَّ المخطوف في قطاع غزة، وحدد لهم بدقة موقع المنزل المحتجز فيه الجندي، واتضح في النهاية أنَّ الجندي محتجز في الضفة الغربية، كما كشفت القناة الثانية الإسرائيلية أنَّ جيش الاحتلال استدعى عام  (2010) مشعوذة من أجل مساعدته في تحديد مصير وظروف اختفاء الجندي «غاي حيفر»، فحسب القناة، استدعت وحدة البحث عن المفقودين في رئاسة الأركان مشعوذة نشرت على حسابها في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» معلومات عن الجندي، زعمت أنَّ ملاكًا من السماء أخبرها بمصير الجندي، تقول «أوفيرا روتم»: «طالما لم تفلح الطرق العلمية نستجيب لطلبات العائلات ونذهب لمشعوذ، خاصةً وأنَّ البحث في الأماكن التي يشير علينا بالحفر فيها لا يكلفنا الكثير من المال وفي بعض الأحيان نستعين بمشعوذين يهود مقيمين في الولايات المتحدة».

يؤكِّد لنا الباحث في "مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة"، نبيه بشير، على أنَّه لم ينج الجيش الإسرائيلي من هيمنة الدين وتأويلاته ونشاطاته، إذ نشهد في العقدين الأخيرين بصورة كبيرة جدًا دخول الاعتبارات الدينية الشعبية وغير الشعبية في نشاطات الجيش، وما يحدث  كواقع الحال في إيران، إذ يقوم أحد رجال الدين بتدريس الجنود المعاني الدينية للنشاط العسكري وبهذا فهو يمدّهم ببعد أكثر عمقًا من مجرد حماية الدولة وحدودها والدفاع عن المجتمع الإسرائيلي، ومن بين جملة هذه النشاطات الدينية داخل المؤسّسة العسكرية وبين الجنود نشهد كذلك شيوع ظواهر جديدة تجمع بين الأبعاد الشعبية للدين (زيارة القبور وطلب البركات من رجال الدين وغير ذلك)، وبين الأبعاد تأويلات «القبالاه» حسب بشير الذي أضاف: «استنادًا إلى هذا الأساس، يمكننا بسهولة فهم ظواهر مثل المزارات والتوافد على رجال دين يتعاملون مع السحر والشعوذة والإخبار عن الغيب وغيرها، ولا عجب أن نرى شخصيات سياسية في البرلمان الصهيوني وفي  المؤسّسات الحكومية كافة يتعاملون بجدية مع مثل هذه الظواهر ويؤمنون بها وربما يعتمدون عليها في بعض الأحيان».