حنان باكير - النجاح الإخباري - في زمن تضخم الأنا، والبحث عن الأمجاد، واللهاث خلف الشهرة بأي ثمن، لا نعدم وجود عظماء بصمت، يقدمون للوطن ما لا يمكن أن يستعاد أو يعوّض.. يقدمون حيواتهم وسني شبابهم، ويصبحون أيقونات وطن، تقدم الذبائح  اليومية على محرابه.

وغالبا، ما ننتظر رحيل هؤلاء، حتى نشحذ أقلامنا لكتابة مراثيهم. فأستذكر هنا قول شاعر انجليزي: أود أن أعيش انجليزيا وأموت عربيا، لاحتفاء العرب العظيم بالموتى. هذا استطراد فرض نفسه، وربما بفجاجة.

كان دم الشباب المبكر، ينبض في عروقنا، يوم تعرفت الى "أيقونة المخيمات"، آمنة جبريل، أطال الله بعمرها وبدم الشباب الذي لم يغادرها بعد. جمعتنا أمور كثيرة، والمشترك بيننا لا يعدّ.

لن أعدد المناصب التي شغلتها، أو المؤتمرات التي حمل فيها صوتها، معاناة شعب، وإصراره على حقه في وطنه. لن أقدم المدائح، لصديقة وأخت زادت السنون ووحدة الدرب، من تمتين أواصر صداقة، جعلت منا شخصا واحدا. سأحكي عن آمنة الإنسانة، والوجه المتواري خلف خصوصياتها، وعن طريقة عملها وتعاملها..

النضال ليس وظيفة استرزاق، يؤديها الانسان، وينصرف منها، الى حياته الشخصية. عند آمنة، يختلط الخاص بالعام، ولا حدود بينهما. شقتها تشبه مكتبها. مفتوحة للبسطاء وحاملي الأثقال. وفي غيابها عن المكانين، فالهاتف يحل محلهما.. في زياراتي المتكررة لها في المخيمات، كان يحلو لي مراقبتها في عملها. تقدمات الجمعيات الأوروبية، لا ترضاها نقدا.. بل بناء مشاريع يحتاجها المخيم. مستشفى، مدرسة.. ويشرفون عليها بأنفسهم.

دار الحضانة في مخيم عين الحلوة، هي واحة رطبة، وسط مخيم متصحر، لا يليق بالسكن الإنساني. وإشراف تربوي، يحاكي روضات الأطفال في الغرب. يأتي اليها رجل مسن طالبا المساعدة، فتقول له: ملابسك قديمة وقذرة، فأين الملابس التي قدمناها لك! اذهب وعد لي نظيفا وبملابس لائقة! فيفعل الرجل بطيبة خاطر. وحين اصطحبتني معها، الى دار الحضانة في عين الحلوة، كانت فخورة وسعيدة، بهذا الانجاز، وإذ دخلت امرأة، بعباءة، تفوح برائحة الطعام، وبقع الزيت. سألتها عن سبب مجيئها، فتجيب: المعلمة أرسلت في طلبي. تردّ عليها: وهل هذه ملابس زيارة لروضة أطفال؟ اذهبي وعودي لنا بشكل يليق بمدرسة، ولنكن لهم قدوة في النظافة والترتيب! المرأة تعتذر وتمتثل للتعليمات. للتربية الاجتماعية، مكانتها في فكر آمنة..

يوم سادت في صفوف المقاومة، صورة نمطية للمرأة المناضلة، التي تحاكي صورة الرجل، في اللباس والسلوكيات، بقيت صديقتي تحافظ على أنوثتها كامرأة، وتناضل كالرجال.. كنت أرقب أناقتها وتنسيق ألوان ملابسها، وأتابع طريقة عملها، فأعجب بتلك المرأة التي جمعت رقة الياسمين وصلابة السنديان.

صديقتي، لم تتخل يوما عن كونها امرأة، حتى في ملابسها الميدانية، وانهماكها في الدفاع عن المخيم، وتأمين حاجيات الناس، الضرورية والرفاهية.. كان ذلك أثناء حصار المخيمات. وقتئذ، دفعتني للتساؤل، لماذا يقال للمرأة الفذة، أخت الرجال! فها هي المرأة بكينونتها الأنثوية، تحاكي السنديان صلابة.

كنت أشاركها، فترات استراحتها النادرة، جلسة على سطح آيل للسقوط، في مخيم سقط بالكامل. هنا كان منتجعها.. تحضّر ركوة قهوة، وتطلب من الصبايا هدنة قصيرة. لم يكن لدي دليل على أنها ليست "روبوتا"، يعمل بلا كلل، الا تلك العاطفة والحنان، اللتان تغمر بهما المخيمات وتوزعهما بالعدل، وبلا تمييز. فلا حياة خاصة، ولا هم شخصي يشغلها، فحياتها خط مستقيم، وبوصلتها الوطن.

بلغت صداقتنا الحدّ الذي كنت أنوب عنها، بلا إرشادات، فتوقعني في إرباكات ومواقف، تصبح لاحقا مضحكة، لكن في حينها لم تكن كذلك... رنّ هاتف جوالي. كانت آمنة، قالت لي: أين أنت؟ أنا في سيارتي، على طريق الروشة، قالت: رائع، أنت قريبة من محطة تلفزيون لبنان، ولدي مقابلة عالهوا .. لكني لن استطيع الوصول من صيدا.. اذهبي مكاني، وسأتصل بمقدمة البرنامج، أجبتها: كيف هيك بلا تحضير وبدون معرفة الموضوع.. أجابتني موضوع اتحاد المرأة وانجازاته.. لم يجد صراخي نفعا، كيف؟ أنا لا اعرف شيئا.. أجابتني بهدوء: سأتصل بك بعد قليل!

دخلت الأستديو ولم تتصل. عبثا حاولت الاتصال بها، فهاتفي يحتاج بعض الوقت ليصبح في الخدمةّ! في غرفة الانتظار، كان أيضا نائب في البرلمان، ينتظر دوره للمقابلة، حاول تهدئتي. حسب توتري سببه الكاميرا. أنجزت المقابلة بنجاح. وحين التقيتها مساء، ضحكت ضحكتها الجميلة، وقالت: أنا أثق بقدراتك ومقدرتك!

وذات مرة اتصلت بي، وأنا في أوسلو. طلبت مني المشاركة في مؤتمر لبلديات فرنسية والموضوع، أحوال المخيمات والتوأمة. وافقت على أمل أن تتصل بي، لتزويدي بالجديد من المعلومات. لم ترسل لي شيئا، وتواصلي كان مع الجهة الفرنسية الداعية. جهزت كل شيء. وقبل السفر بليلة، اتصال من باريس، يستسمحني بتغيير الموضوع، بآخر يتطلب تحضيرا وتحليلا ورؤية شخصية، لمستقبل الفلسطينيين في لبنان، وسلاح المخيمات! فاستوجب تحضيرا طيلة ليلة السفر.. انتحى راعي المؤتمر بي، واتصل بآمنة، ليقول لها: وين كنت مخبية هالإنسانة، هي حقا أنت!