باسم برهوم - النجاح الإخباري - بعد ذهابي لبيروت، نهاية عام 1977 قادما من بغداد، وكان لبنان حينها في ذروة حرب أهلية، والثورة الفلسطينية فيه تعيش واحدة من مراحلها الذهبية كقوة لها تأثيرها في الاقليم، فإن أية زيارة أخرى لأي بلد لم تنل هذا القدر من حالة الترقب، والرغبة الجامحة لملامسة الواقع، كما هي زيارتي ضمن وفد من الإعلام الرسمي الفلسطيني لدمشق الاسبوع الماضي. فالزيارة وإن كانت رسمية لها أهداف محددة، فإنها بالنسبة لي شخصيا أكثر من ذلك بكثير، فهي تأتي بعد غياب استمر 37 عاما.
خلال الفترة المذكورة تغير كل شيء من حولنا تقريبا، تغير الشكل السياسي للعالم، وتغير الإقليم، والواقع العربي السوري والفلسطيني، كما تغيرت انا شخصيا، وتغير تقييمي للأمور وفقا للمتغيرات. في حينها، قبل 37 عاما، كانت دمشق رقما مهما في السياستين الاقليمية والدولية، ويقف خلفها حليف مبدئي وقوي هو الاتحاد السوفييتي ومعه دول حلف وارسو، وكانت دمشق تتنافس هي وبغداد على قيادة الأمة العربية، خصوصا بعد خروج القاهرة من الصف العربي بعد توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد مع اسرائيل عام 1978. وطوال الـ 37 عاما كانت العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية، والنظام في سوريا، علاقات أقل ما يقال عنها انها ليست على وئام تماما، فالمنظمة باعتبارها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، كانت تقاوم محاولات دمشق للسيطرة على القرار الوطني الفلسطيني، ومن جهته كان النظام يعتقد ان سيطرته على القرار الفلسطيني، والامساك به وبورقة القضية الفلسطينية بمثابة المدخل الضروري للعب دور اقليمي اكبر، ومدخل لقيادة الأمة العربية ولشرعية النظام القومية.
في مطار الملكة عالية، في العاصمة الأردنية عمان، تعمدت فيما تبقى من وقت قبل الاقلاع، ان اخلو لنفسي مبتعدا قليلا عن الاخوات والاخوة باقي أعضاء الوفد، مقلبا كل صفحات واوراق تاريخ العلاقات الثنائية، وتاريخ المنطقة، ودور وموقع سوريا والفلسطينيين فيها، ولماذا اختلفنا في مراحل، ولماذا اتفقنا وتحالفنا في مراحل أخرى؟ العودة للتاريخ ليس بهدف البقاء فيه، وإنما لنأخذ نحن الطرفين الدروس والعبر.
ما استوقفني جزئية تحالف النظام في سوريا مع حماس، التي هي جزء من جماعة الاخوان المسلمين، التي طالما تآمرت عليه وعلى كل القوى القومية والوطنية، وثبت تآمرها عليه في الأزمة الاخيرة، لماذا تحالف مع هذا الجذر الاخواني الذي خرجت من عباءته كل الحركات الظلامية على حساب فتح ومنظمة التحرير التي تشترك معه في الجذر القومي والوطني بغض النظر عن الخلافات والاختلافات السياسية...؟؟
ازدحم الحوار الداخلي، وتسارعت التساؤلات التي حاولت جهدي ان اكون موضوعيا قدر الامكان، فلا موضوعية خالصة في السياسة، حاولت ان ادقق اين اخطأنا وأين هم اخطأوا، وخرجت باستنتاج ان الامة العربية ودولها تعشق تعميق خلافاتها الجانبية على حساب مواجهتها للعدو الخارجي، وتنمية شعوبها، فكم من المال والجهد والدم هدر عربيا في المناكفات والخلافات الجانبية، التي لا نزال نعيش ابشع صورها اليوم...!!
في الطائرة، الخطوط الجوية السورية، وهذا بحد ذاته موضوع اخر يحتاج الى معالجة أخرى، وانا فوق السحاب تذكرت كيف ان حماس قد طعنت من الخلف من قدم لها الدعم، وانخرطت منذ بداية عام 2011 في الأزمة السورية وحملت السلاح مع التنظيمات الظلامية ضد النظام التي قادت في نهاية المطاف الى تدمير مخيم اليرموك عن بكرة ابيه وتشريد اللاجئين الفلسطينيين منه.
وما ان هبطت الطائرة حتى اصابتني موجة حزن وألم، فالطائرة التي كانت تقلنا هي الوحيدة التي تتحرك في مطار دمشق الدولي، فأدركت حجم الأزمة التي مر بها هذا البلد العربي الشقيق، وما ان توقفت الطائرة ونزل الوفد الذي كان اعضاؤه لا يقل ترقبهم عن ترقبي، ما ان نزلنا حتى بدأنا نشعر بالدفء رغم أن الطقس شديد البرودة، خصوصا أننا وصلنا دمشق بعد مغيب الشمس، وفي صالة  كبار الضيوف كان في استقبالنا مندوب وزارة الاعلام السورية، والأخ السفير انور عبد الهادي وما لقيناه من حسن استقبال ادركنا ما هو مدرك: اننا كلنا بحاجة موضوعية لبعضنا البعض، وان المصالح المشتركة هي اقوى واعمق من اي خلاف عابر، فقبل مائة عام فقط، قبل ان يمزقنا الاستعمار في خارطة سايكس بيكو كنا بلدا واحدا.