النجاح الإخباري - دخلت القوّتان العظميان مؤخّراً مرحلة مكثّفة في المناورات ذات الطابع النووي. لكن ما ميّز هذه المرحلة هو عدم حصولها على تغطية إعلاميّة واسعة في الصحف الأميركيّة بما فيها تلك المرموقة على ما يشير إليه محلّلون غربيّون. عندما تتزعّم شخصيّتان مثيرتان للجدل مثل الرئيس الأميركيّ دونالد #ترامب والرئيس الروسيّ فلاديمير #بوتين أقوى ترسانتين عسكريّتين في العالم، يصبح الأمن العالمي معرّضاً لتقلّبات شتّى. 

في أواخر أيلول الماضي، أعلن الكرملين تدمير آخر مخزوناته من الأسلحة الكيميائيّة وقد أشرف بوتين شخصيّاً على تلك العمليّة. لكن بعد أقلّ من شهر، أشرف الرئيس نفسه على إطلاق صواريخ بالستيّة خلال مشاركته في تدريبات إدارة القوّات النوويّة الاستراتيجيّة. وقد شاركت في التدريبات غوّاصات نوويّة وقاذفات استراتيجيّة من طراز "تو 160" و "تو-95 أم سي" و "تو 22 أم3". أمّا بالنسبة إلى ترامب، فمقاربة الأسلحة النوويّة تصبح أكثر دقّة. إذ تشير وسائل إعلاميّة أميركيّة مثلاً إلى أنّ وزير الخارجيّة ريكس #تيليرسون غضب في تمّوز الماضي من ترامب بسبب عدم رضاه عن التزام الولايات المتّحدة بتخفيض ترسانتها النوويّة.  

"الرعد العالمي"

وفي 30 تشرين الأوّل الماضي، خاضت القيادة الاستراتيجيّة الأميركيّة "ستراتكوم" مناورات "الرعد العالميّ" وهي مناورات للقوّات النوويّة الاستراتيجيّة تتضمّن انخراطاً لقطاعات مختلفة مثل القوّات الجوّيّة وأنظمة المراقبة والاستطلاع والضربات الشاملة والأنظمة الدفاعيّة وغيرها. وكانت قاذفة "بي-2 سبيريت" القادرة على إسقاط قنابل تقليديّة ونوويّة قد انطلقت قبل وقت قصير على تلك المناورات باتّجاه منطقة الهادئ لإظهار التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها كما قال أحد المسؤولين في القيادة الاستراتيجيّة. وتزامن ظهور "بي-2" مع زيارة وزير الدفاع الأميركي جايمس #ماتيس إلى المنطقة وقبل يومين على بدء ترامب جولة شرق آسيويّة.

بهذا المعنى، كان شهر تشرين الأوّل حافلاً بالمناورات لدى كلّ من موسكو وواشنطن في محاولة ضمان القدرة على المبادرة والدفاع في أيّ حرب شاملة أو بحسب بيان القيادة الاستراتيجيّة، "تأمين تأثيرات متعدّدة المجالات ضدّ أيّ خصم وأيّ مكان في العالم وأيّ زمان". ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ مناورات "الرعد العالمي" هي مناورات سنويّة وليست استثنائيّة. وقامت وزارة الدفاع بإبلاغ روسيا مسبقاً بهذه التدريبات بحسب موجبات معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة الاستراتيجيّة "ستارت" على عكس مناورات أخرى لا تبلَّغ موسكو بها مسبقاً. غير أنّ دوريّة تلك التدريبات لا تنزع عنها مفاعليها السياسيّة والعسكريّة كما يشير إلى ذلك المطّلعون.

على الرّغم من إطلاع واشنطن المسبق لموسكو على مناوراتها مسبقاً، ينظر الروس إلى هذه التدريبات بشيء من الريبة. السفير الروسيّ السابق إلى #واشنطن سيرغي كيسلياك قال لوكالة "سبوتنيك" إنّ هذه المناورات "مقلقة" للروس لكنّها "ليست تهديداً". وتحدّث عن فرق مهمّ بين المناورات الروسيّة وتلك الأميركيّة. فالأولى بحسب رأيه تهدف إلى حماية أمن روسيا الخاص. بينما تدريبات الأميركيّين تمارس جهوداً متعدّدة الأبعاد للتأثير على عدوّهم المحتمل في أيّ مكان وزمان.

"حقبة باردة جديدة في الأجواء"

وكان السفير الروسي إلى حلف شمال الأطلسي #ناتو ألكسندر غروشكو قد أعرب عن قلق بلاده من إقحام الحلف المستمرّ لدول غير نوويّة في مناورات نوويّة في خرق للمادّتين الأولى والثانية من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النوويّة. بيتر كورزن، خبير في الحروب والنزاعات، كتب في موقع "الثقافة الاستراتيجيّة" أنّ هنالك مؤشّرات إلى "حقبة باردة جديدة في الأجواء". لذلك، ومع ازدياد التوتّرات، تصبح التدريبات خطرة، خصوصاً تلك النوويّة. ولم يرَ الكاتب أي مصادفة في مكان إجراء "الرعد العالمي" بالقرب من كوريا الشماليّة وتزامنه مع زيارة ترامب إلى المنطقة.

"يمكن أن تنهي الحياة على الأرض"

من جهته، ينتقد بروفسور التخطيط الاستراتيجي في "معهد الحرب البحريّة" لايل غولدشتاين الإعلام الأميركي لعدم تغطيته هذه المناورات التي "يمكن أن تدمّر بسرعة الدولتين وأن تنهي الحياة على الأرض". وفي مؤسّسة الرأي "ذا ناشونال إنترست"، كتب أيضاً أنّه يمكن لهذه السياسة الإعلاميّة أن تنزع المسؤوليّات عمّن يتسبّبون ب "حرب باردة جديدة". وعلى الرغم من حصول هذه التدريبات بطريقة دوريّة، لا يمنع ذلك كونها منافية لمصلحة الأمن القومي بحسب عبارته. ولا يقتصر الغياب الإعلاميّ عن مناورات ضخمة كهذه، بل عن تحرّكات الدول المفترض أنّها عدوّة لواشنطن، فيستغرب مثلاً عدم ذكر صحيفتي "واشنطن بوست" و "نيويورك تايمس" الأميركيّتين زيارة الرئيس الروسي إلى #طهران.

موسكو "عصبيّة للغاية"

ويشير غولدشتاين إلى صحيفة "نيزافيزيمايا غازيتا" الروسيّة التي تحدّثت عن مناورة "الرعد العالميّ" والمناورة الروسيّة الاستراتيجيّة باعتبارهما استعراضاً لا طائل منه للقوّتين الجبّارتين بهدف إثارة المخاوف المتبادلة. ورأت الصحيفة في تحليلها أنّه "في الواقع، كانت واشنطن وموسكو كلتاهما، تتدرّبان على توجيه الضربات النوويّة إلى بعضهما البعض". ومع تطرّقها إلى أنّ موسكو كانت "عصبيّة للغاية" بسبب استمرار توسّع واشنطن في شمال شرق آسيا، لفتت النظر أيضاً إلى احتمال تزايد فرص التصعيد في النزاعات الإقليميّة، في الشرق الأوسط أو في شبه الجزيرة الكوريّة.

مع غياب الثقة المتبادلة بين الكرملين والبيت الأبيض (أو ربّما الكونغرس بتعبير أدقّ)، قد تتحوّل المناورات المشتركة إلى بداية جدّيّة لحرب باردة جديدة. وبالرّغم من كون التوتّر مضبوطاً بحدّه الأدنى، لا يمكن استبعاد ما جاء في الصحيفة الروسيّة من توقّع لتنامي التوتّرات الإقليميّة الناجمة عن التشنّج في العلاقات الثنائيّة بين الدولتين الكبريين. لكنّ حصول العكس قد يكون وارداً أيضاً: أن تنعكس التجاذبات الإقليميّة توتّراً استراتيجيّاً بين هاتين العاصمتين.