نابلس - النجاح الإخباري - في الحين الذي يقف فيه المبصرون وقد عميت أعينهم عن سبل العمل والأمل، وأقفلت صدورهم عن الدنيا وما فيها ليندبون الحظ والنصيب، إلا أن النور له الكشف، والبصيرة لها الحكم، والقلب له الإقبال والإدبار، فربما يبدع كفيف ويخيب مبصر، ولعل الحرفي الكفيف محمود دبوس ورفاقه خير نموذج في إثبات قدرة البصيرة.

 أنامل أكفاء مرهفة تبدع بصنع المكانس بأنواعها المختلفة وسط البلدة القديمة في نابلس، قش وخشب تحوله أيديهم لقطع يحتاجها كل منزل في حرفة تكاد تندثر تحتاج لجهد عضلي وذهنيّ، يرونها واجب تراثي يفتح آفاق العمل وأبواب المعرفة أمامهم وتفسح لهم طريق الاندماج بالمجتمع.

الحرفي محمود دبوس قال لـ"النجاح الإخباري": "هذه الصنعة تكاد تكون الوحيدة التي يستطيع الكفيف أن يتعلمها ويعمل بها؛ نعتمد على الإحساس، ونستخدم مواد بسيطة من قش، ومسامير، شاكوش خشب، مسلة، خيطان، قالب، وأسلاك ، نجمع القش ونشده حتى السلك الأخير لنوفر لربة المنزل ما يخدمها ويضع لنا بصمة في عالم المهن".

بين كومة من القش، أخذ دبوس ينسق الأعواد؛ ويرتبها الواحدة تلو الأخرى، ليصنع منها حزمة، تأخذ شكلها النهائي، لتصبح مكنسة من القش الطبيعي المتناسق، المتين.

هذه المهنة من المهن الصعبة، التي تعود على عمالها بتردي الصحة، فالجلوس لتلك الساعات الطويلة، يؤثر على الظهر والقدمين، بسبب القعود الطويل، وقلة الحركة، ولكن للقمة العيش ضريبة قاسية.

 وناشد دبوس المجتمع بافساح المجال للكفيف بأن يكون له دوره وعمله لئلا يكون عالة على الناس، وليبقى نابضا بالحياة رغم عتمة العينين.

هم حرفيون بإلحاح يعملون كخلية نحل من أجل كسب لقمة العيش بعرق جبينهم إلا أن صعوبات جمة تعترض طريقهم فالدعم الذي تتلقاه جمعية رعاية المكفوفين شحيح جدا، عدا عن غزو المكانس الجاهزة التي تحارب المصنوعة يدوياً، الأمر الذي أدى الى تراجع نسبة الطلب عليها.

الحرفي الكفيف عماد سلامة، قال :" نواجه الكثير من الصعوبات من حيث تسويق المنتج، قديما كان الناس يفضلون العمل اليدوي على المستورد ولكن مع غلاء القش وغلاء الخشب وغزو البضائع المستوردة للسوق أصبح هناك عزوف عن المنتج المحلي".

ويرى هؤلاء أن مكانس القش وبعض الأدوات المنزلية المصنوعة منه هي جزء من التراث الفلسطينيّ الأصيل، ما يجعلها رسالة الماضي التي يحافظون عليها لجيل المستقبل.

وحول جودة المكانس التي ينتجونها، يقول سلامة:"أتحدى أن تقدم المصانع مكنسة بمتانة ما نصنعه بأيدينا.. بقية الصناعات الأخرى تتم بشكل تجاري وتتلف من الاستخدامات الأولى لها".

هنا في أزقة البلدة القديمة بقلب مدنة نابلس، تفوح رائحة المِهن العابقة بالحنين إلى الزمن الجميل، كعلامة تجارية فارقة دالة على العراقة والأصالة ومتانة الصنعة اليدوية الفلسطينية المُعبرة عن الهوية العربية الفلسطينية لتروي حكاياتهم تجاربهم وعزيمتهم على تحدي الإعاقة البصرية، وتصميمهم على الحفاظ على مهن الآباء والأجداد.

 صناعات بسيطة تغنيهم عن ذل الحاجة والسؤال، بل توظف قدراتهم وتنمي مهاراتهم، رغم  المعاناة إلا أن شعارهم: "العاجز هو اليائس البائس الذي يردد لا أستطيع".

يشار إلى أن مكانس القش تصنع من نوع خاص من أنواع الذرة يسميه الفلاحون "المصالح"، حيث يقومون بزراعتها في مطلع شهر نيسان ويستمرون بالعناية بها حتى نهاية تموز، فيقومون بقطافها وتنظيفها من البذور ومن ثم أخذها إلى الحرفي الذي يصنعها.

 كان المزارعون يزرعون "المصالح" بكمياتٍ كبيرة لكن اليوم قلت زراعتها وزاد سعرها حيث أصبحت زراعتها مغامرة كبيرة بسبب انتشار الخنازير البرية التي تتلف المحصول.

قبل عشر سنوات كان سعر الواحدة لا تعدى 4 شواقل، أما اليوم فأقلها 12 وقد تصل لـ18 شيقلا حسب كثافتها.

مهنة تراجعت  حتى شارفت على الاندثار إن لم تكن في ذاكرة النسيان، في ظل تطور صناعة المكانس البلاستيكية والمنتجات الصينية التي ملأت الأسواق، هي بالنسبة لهؤلاء المكفوفين قشة الأمل التي تمنحهم الشعور بالإنجاز والعطاء مساواة بغيرهم وتوفر لهم الجزء اليسير من الدخل يتمسكون بها كجزء من إثبات الذات وخدمة هويتهم الوطنية.