مهند ذويب - النجاح الإخباري - فيروز غنّت ذاتَ يوم: " طيري يا طيارة طيري يا وَرَق وخيطان .. بدي أرجع بنت صغيرة على سَطح الجيران"، والشّبان في غزّة سيغنون اليوم وهم يطيّرون طائِراتهم الورقيّة المشتعلة: " طيري يا طيارة طيري يا ورق ونيران .. بدي ترجع أرضِ الطيرة وعكا وبيسان" !

تتكوّن الطائِرة الورقيّة من إطارٍ خشبيّ على شكل معين، ويكونُ غالبًا من الخيزران الذي يتم اختياره حسب حجم الطائرة، فيكون سميكًا وقويًا للطائرات الكبيرة، وتغطّى الطائِرة بغلافٍ ورقيّ أو بلاستيكيّ، ويكونُ لها ذيلٌ من الورق أو البلاستيك أيضًا لضمان التّوازن، وتربطُ بخيط رفيع إلى الأرض، هذا ما تعلّمناه في الصّغر من آبائِنا عن كيفيّة صنع الطائِرة التي اعتقدنا ولمدّة جيّدة من الزّمن أنّها وسيلة للّهو واللّعب الصّبياني، وإمضاءِ الوقت فقط، لكنّ يبدو أنّ الحقيقة غيرُ هذا واقعيًا وتاريخيًا. 

تاريخيًا يُعتَقدُ أنّ الصينَ من أوّل الحضارات التي استخدمت الطائِرة الورقيّة، فكُتب التاريخ تذكر أنّها كانت كبيرة الحجم، وبعضها كانَ قويًا بما يَكفي لحمل رجلٍ في الهواء، كي يُراقِبَ تحرّكات العدو،  وكانت تُستخدم لتوزيعِ المَنشورات على جُنود الأعداء لتهديدهم وحثهم على الاستسلام، فالطائِرة الورقيّة اكتسبت صِبغة عسكريّة حربيّة منذُ بدايات صُنعها، ولم تَقتصر على اللّهو. 

ومن الحكايات الصينيّة التي تُروى أيضًا  أنّ أحد مُلوك الصين حوصِر في مدينة فطيّر طائِرة ورقية لطلب المساعدة، وجلب الإمدادات من أتباعِه في المدن الأخرى، وكانت الطائرة الورقيّة في الحضارات الصّينيّة واليابانيّة تُسمى (غراب النار المقدّس)؛ لأنّ الجيوش كانت ترسل بها المتفجرات لمهاجمة العدو.

واقعيًا يمكِنا الرّبط بين(غراب النار المُقدّس) أو فلنُسمّها (غراب البين المُقدّس كما يقول الفلسطينيون في لهجَتهم الفلاحيّة)، وبين استخدام الشّبان للطائِرات الورقيّة في مواجهات مسيرة العَودة التي انطلقت في 30 من نيسان الماضي بمناسَبة يوم الأرض، وتستمرّ اليوم في جمعتها الرابِعة متحدّية قناصي الاحتلال، وآلياتِه العسكريّة، بالطّرق السّلميّة والإبداعيّة في النّضال والمُطالبة بالحقوق الفلسطينيّة المَشروعة، فبعدَ الاستخدامِ الكثيف للإطارات بما عُرف بجمعة الكوشوك، واستخدام المرايا، لجأ الشّبان الفلسطينيون لاستخدام الطائِرات الورقيّة التي تحمل المواد الحارِقة لإحداث حرائِق ولو صغيرة في الحُقول المحيطة بالسّياج الحدودي للقطاع، مما أدى إلى إرباك الاحتلال، ومستوطنيه في ما يُعرف بمستوطنات غلاف قِطاع غزّة، وزادت شكاوى المستوطنين ومخاوفهم من حرائِق محتملة. 

الطائِرات الورقيّة (غراب البين) وغيرِها من الطّرق التي ابتكرها الشّبان استطاعت إحراج الاحتلال على الساحة الدّوليّة، وخاصّة الأوروبيّة فالكثير تحدّث عن هذه الوسائِل البدائِية التي يستخدمها الفلسطيني للمطالبة بحقّه الذي كفلته له الحقوق والشّرائع الدوليّة في مقابل استخدام مفرط للقوّة من الاحتلال وجنوده، هذه الوسائِل ستدخل التاريخ مرّة أخرى بصورة مشرّفة للصمود والنّضال الفلسطيني، وسَتحقق بصمود واستمراريّة الشّبان كسرًا للحصار المفروض على القِطاع من 11 عامًا. 

روى الجاحِظ في كِتابه "الحيوان" أنّ مسيلمة مدّعي النّبوة استخدم طائِرة ورقيّة صَنعها من الراياتِ البيضاء والورق الصينيّ؛ ليعتقد أتباعُه أنّها الملاك القادِم من السّماء، وأقتبسُ نصًا من كتابه حينَ يصف هذا موردًا ادّعاء مسيلمة: " إنّ المَلائكة تنزل عليّ وهي ذوات أجنحة، ولمجيئِها زجل، وخشخشة، وقعقعة؛ فمن كان منكم ظاهرًا فليدخل منزله، فإنّ من تأمّله اختطفَ بَصره. ثمّ صنع راية من رايات الصّبيان التي تعمل من الوَرق الصينيّ ومن الكاغِد وتجعل لها الأذناب والأجنحة وتعلق في صدورها الجلاجل وترسل"، وشتانَ بين مُسيلمة وبين شعبٍ سلاحِه الصّدق والإصرار، وطائِرته جناحُ الملاكَ الحقّ التاريخيّ المُقدّس، ورسالة السّلميّة البيضاء، في وجه احتلالٍ أسودَ من دخانِ الكاوشوك، فالطائِراتُ ستكونُ بيضاءَ على الفلسطينين، و(غراب البين والنار) على الاحتلال ومستوطِنيه.