نابلس - النجاح الإخباري - " فاذهب إليكَ فأنتَ أوسعُ من بلاد الناسِ، أوسعُ من فضاء المقصلَةْ
مستسلمًا لصواب قلبكَ
تخلع المدنَ الكبيرةَ والسماءَ المُسْدَلَةْ
وتمدُّ أرضًا تحت راحتك الصغيرة
خيمةً
أو فكرةً
أو سنبلَهْ"
- محمود درويش

في الثالثِ عشر من آذار لكلّ عام، تطلّ فلسطين بعينِ شاعِرها محمود درويش في ذكرى ميلاده\تجدّده على بحرِها الذي "أعادَ المهاجرونَ موجه معهم"، على جسدها المُفعم "بأغنية البقاء"، على خطوتها "التي حاوَلت"، فتعلمُ علمًا لا تشوبه حنّات الشّك أنّها – وهي أمّ البدايات، أمّ النهايات- ما زالت قادرة بأبنائِها ومبدعيها على صياغةِ مشهدٍ مقاومٍ يتحدّى الاحتلال، وحصاره، وأسلاكه الشائِكة المغروزة في لحمِها، أنّها – وهي التي تسمّى أبدًا فلسطين- مازالت سيّدةً وملهمة للمشهدِ الثّقافيّ، وللذاكِرة العصيّة على الكسر والنّسيان، ولأجيالٍ من الأقلامِ قرأت بعدَ باسم الله: باسم فلسطين، فاستحقينا جميعًا الحياة لها ولأجلها. 
إنّ اختيار يوم الثقافة الوطنيّة، في آذار الرّبيع والتّجدد والأرض والأمّ والكرامة، هو بيانُنا، ورسالتنا التي بنيت مفرداتها على التّمسك بالثّوابت والحقوق الفلسطينيّة وعلى رأسها حقّنا الشّرعيّ بدولتنا المُستقلة، وعاصِمتها القدس الشّريف، وحقّنا بالحياة والإبداع والأمل والمستقبل. 
إنّنا في وزارة الثّقافة نؤمنُ أنّ الثقافة حالة مقاومة تتحدّى مظاهر القمع والاحتِلال، ونؤمن أنّ الفعل الثّقافيّ الذي يرتكزُ على حقنا بالتاريخ والجغرافيا والذاكرة هو ضروة وطنيّة، وهو حِبرنا الذي نرسّخ فيه الرّواية الجمعيّة والحكاية الفلسطينيّة، التي تشكّل حصنًا منيعًا للأجيال أمام محاولاتِ الاقتلاع، والتّجهيل، والتّغييب.
نطلقُ اليوم فعاليّات الاحتِفاء والاحتِفال بيوم الثّقافة الوطنيّة، والتي ستستمرّ حتّى الثلاثين من الشّهر الجاري، يوم الأرضِ الخالد، استكمالًا لجهود وزارة الثّقافة في مأسسة العمل الثّقافيّ، بخلقِ فعلٍ ثقافيّ مستدامٍ ومؤثّر، منفتحٍ على فضاءاتٍ أوسعَ للإبداع، ملتحمٍ بالذاكِرة وإعادة تقديم الرّواد، فهذه الفعاليّات التي تضمّ اختيار شخصيّة العام الثقافيّة، وتضمّ اختتامِ مئويّة المثقف والمصرفيّ الكبير رفعت صِدقي النّمر، والإعلانِ عن اثنين من أبرزِ الرّواد للعام (2019) ضمن مشروع الاحتفاءِ بمئويات روّاد الثقافة، وإنّ انحيازنا في وزارة الثقافة لفكرة الميلاد يأتي من خلال إيماننا أنّ الميلاد يتجدّد دائمًا مع كلّ ما يقدّمه هؤلاء الرّواد للأجيال، من ثراء التّجربة التي تخلقُ وعيًا وطنيًا وثقافيًا، وأردنا أن نقول أنّه ورغم رحيل الجسد إلّا أنّ هذه الأسماء بكلِّ ما تركته فينا من إرث تتجدّد مع كلّ مرّة نعيد فيها تقديمها، ونتاجها، وإرثها الكونيّ للأجيال؛ لذلك سنحتفي هذا العام (2019) بمئويّة ميلاد الطّبيب والسّياسيّ الفلسطينيّ والقائد الوطني المُخضرم حيدر عبد الشافي، والمؤرّخ والمفكّر الكبير إيميل توما، هذه الأسماء التي شكّلت علامة فارقة في تاريخنا الفلسطيني، فحقّ علينا الوفاء لها، ولتجربتها الرائِدة.
إنّ جملة هذه الفعاليات تعتبر مدخلًا لاحتفاليّة القدس عاصمة الثّقافة الإسلاميّة للعام 2019، والعاصِمة الدائِمة للثقافة العربيّة والإسلاميّة، في الذّكرى الخمسين لإحراق مسجدها على يدِ التّطرف والإرهاب الصّهيونيّ، لهذا فإنّ بياننا اليوم، وغدًا، سيشمل رسالة الحقّ الفلسطيني في التاريخ والرّواية، فإلى أن يَرفع أشبالنا وزهراتنا علمنا فوقَ أسوارها مطلعه، وسدرة منتهاه القدس، لأنّها القدس التي استأثرت بالأبجديّة وبالأوراق والدّم المداد، لأنّها المدينة العصيّة، تشهدُ حجارتها الضاربة في عمق التاريخ والقلوب أنّها عربيّة الأصل، إسلاميّة الرائِحة والمذاق، لأنّها الصامِدة بأهلها، ومقدّساتها، وتسامُحها، وبائِعات الزّعتر الجبليّ في أزقتها، صامِدة بشعرائِها وكتّابها ومثقفيها، فهي قضيّتنا الأولى، وعاصِمتنا، وملهمة إبداعنا المُقاوم، فرغم ما يحدق بالعاصِمة من مخاطِر إلّا أنّ صمودنا الوطنيّ، ووعينا الثّقافيّ لن يقبل أيّ شكلٍ من أشكال الهزيمة؛ وذلك لأنّ القدس علمتنا كيف نستقي صمودنا وثباتنا من معالمها، وحجارتها، وطرقاتها التي تطلّ على مستقبل الحريّة بكلّ كبرياء.
في يوم الثقافة الوطنيّة نجدّد تأكيدنا على دور الثّقافة في تعزيز الصّمود والثّبات، وبناء الشخصيّة الوطنيّة، وترسيخ الوعي والانتماء لفلسطين الوطن والتاريخ والحاضِر والمستقبل، ونجدّد عاليًا رفع صوتنا أنّنا وبرغم الألم والموتَ الذي يلاحِقنا في المُدن والقرى والمخيّمات لازالت جباهُنا ناظرة للأعلى\الأمام، للأعلى\الثّبات، حاملين ملح قصائِدنا، وما خلّفته العواصِف فينا من ندوبٍ أصبحت كتبًا وأقلامًا، حاملينَ حقّنا بالحياة على أرضنا، مستلهمينَ من روّادنا، وصمودِ عاصِمتنا، وتحدّي مثقفينا ما يكفي لتنتصر الثقافة والإرادة الفلسطينيّة، "فليسَ فينا مَن تراجع أو تداعى".

"لا جوعَ في روحي،
أكلتُ من الرّغيف الفذِّ ما يكفي المسيرَ إلى نهاياتِ الجهات
عشاؤكم ليسَ الأخير
وليس فينا من تراجَعَ أو تداعى"

- محمود درويش