عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - يمكن القول إن حركة فتح هي أبرز (وربما آخر) حركات التحرر العربي التي ما زالت تتصدى للمشروع الاستعماري، وتأتي بمكانة جبهة التحرير الجزائرية، وحزب المؤتمر الوطني الهندي بقيادة غاندي، والمؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة مانديلا، وغيرها من حركات التحرر الوطنية التي قادت شعوبها نحو الحرية والاستقلال، والفارق بين فتح وغيرها من تلك الحركات التحررية يكمن في طبيعة الفوارق بين القوى التي استعمرت تلك الشعوب، وبين الاحتلال الصهيوني (بطبيعته التوسعية الإجلائية، ودوره الوظيفي الإقليمي، ومكانته وأهميته في النظام الدولي)، وبالتالي الفارق بين صعوبات العمل والنضال في الحالتين، خاصة أن العمق العربي المحيط بفلسطين تبين أنه لم يكن حليفا للفلسطينيين، بل كان عدائيا؛ مستترا تارة وواضحا تارة أخرى.
بمعنى أن طبيعة المشروع الإسرائيلي مختلفة عن طبيعة القوى التي قاتلتها تلك الثورات، فقد كانت تلك القوى حتى مع هزيمتها واندحارها تجد خيارات الانسحاب، أو تغيير بنيتها، وتظل حية.
لكن في الصراع العربي الصهيوني الأمر مختلف؛ حيث رُبِطت مصالح الإسرائيليين بل وحتى وجودهم نفسه ببقاء كيانهم متفوقا، ورُبطت مصالح الدول الكبرى ببقاء إسرائيل، حتى صار هذا الكيان ركنا مهما في المعادلة السياسية التي تحكم النظام الدولي، وبالتالي فإن هزيمة هذا الكيان تتطلب أولاً قلب أسس المعادلة السياسية الدولية، وهذا الأمر يتطلب استنهاض عناصر القوة العربية كلها. ما لم يحدث أبدا.
اعتبر البعض أن الثورة الفلسطينية أخفقت لأنها تخلت عن الكفاح المسلح، أو لأنها مارسته بطريقة خاطئة، ما جعلها تتكبد هزائم عسكرية متلاحقة، أدت إلى خسارتها مواقعها واحدا تلو الآخر.. فيما يرى آخرون أن حصر المقاومة بالجانب العسكري هو سبب تلقيها كل هذه الخسائر، لأن إسرائيل متفوقة بالقوة العسكرية على الجانب الفلسطيني لدرجة لا تقبل المقارنة، وبالتالي من الخطأ الاعتماد فقط على الكفاح المسلح، ولا بد من التركيز على النضال السياسي.
ويرى آخرون أن الأداء السياسي لمنظمة التحرير كان ضعيفا منذ البداية، وفي اللحظات التي كانت تقترب فيها من تحقيق إنجاز، كانت تدخل على الخط قوى فلسطينية معارضة (غير منضوية تحت منظمة التحرير) تشوش على أدائها السياسي، وتضعف من موقف المفاوض الفلسطيني؛ أي من خلال العمليات التفجيرية التي كانت تأتي في أغلب الأحيان في توقيت خاطئ، تعطي نتائج عكسية.
اليوم، يلقي كل طرف اللوم على الآخر، ويتهمه بالمسؤولية عما وصلت إليه أوضاع القضية من تردٍ وتراجع، والحقيقة أنه بسبب التنافس والصراع بين التيارات الفلسطينية لم يكن هنالك أي تنسيق أو تناغم أو تكامل بين العمل العسكري وبين العمل السياسي، فلم يأخذ أي منهما فرصته في النجاح، فالمفاوضات لا يمكن أن تنجح في ظل سلسلة من العمليات التفجيرية، والعمل العسكري غير المدروس يؤدي إلى إقحام الشعب في معركة مفتوحة بلا نهاية، بحيث يقدم تضحيات باهظة دون نتائج ملموسة، أما تلازم المفاوضات مع المقاومة وتسليحها بهدف سياسي فيجعل من المقاومة عملية سياسية بامتياز، ويفتح لها آفاق الانتصار.
ولهذه الأسباب – وحتما توجد أسباب أخرى - بالرغم من تاريخها النضالي الطويل، إلا أن الثورة الفلسطينية لم تدرك غايتها للآن، ولم تحقق أهدافها الكبرى كما كانت ترسم وتخطط؛ فعلى مدى قرن خاضت أجيال متتالية من الفلسطينيين صراعا داميا، منهم من سُجِن أو عُذِّب أو قُتِل أو أُبعِد أو خسر عمله أو بيته أو أحباءه.. من حرب إلى حرب، ومن موقع صعب إلى أصعب.. ومع ذلك ما زال الحلم بعيداً..
فمنذ الخروج الأول من الأردن، والفلسطيني في حالة حصار، ويتكبد الخسائر ويدفع الأثمان الباهظة؛ إلا أنه نجح في الإبقاء على شعلة القضية الفلسطينية متقدة ومتوهجة، بعد أن كانت منسية في أدراج الأمم المتحدة، ونجح في تحرير القرار الفلسطيني من قيود الوصاية العربية، ونجح في الصمود والدفاع عن نفسه وعن حلمه وحقوقه، ونجح في جعل قضيته جزءا أساسيا من المعادلات السياسية الدولية والإقليمية كرقم صعب لا يمكن تجاوزه، وجعلها ركنا مهما من أركان الضمير الإنساني، وجعل من الظلم الواقع عليه رمزاً للاضطهاد والظلم الواقع على الشعوب المستضعفة، وحوّل كفاحه إلى رمز للثورة على القيد ومناهضة الاحتلال والتمييز في العالم.
بالإضافة لصمود الشعب وثباته فوق أرضه، وتمسكه بحق العودة؛ ربما تكون المرونة السياسية والتفكير البراغماتي الذي انتهجته القيادة الفلسطينية، من بين أهم أسباب الصمود والبقاء، والحفاظ على شعلة القضية الفلسطينية متقدة، رغم الحصار والحروب والمؤامرات، علما أن حركات تحرر أخرى كانت تناضل من أجل قضايا عادلة لم تخفق في تحقيق أهدافها وحسب؛ بل طوتها الأحداث وتجاوزها التاريخ، وصارت مجرد ذكرى..
فتحديات العمل في بيئة معادية، وفي منطقة تتحكم فيها الجغرافيا السياسية بشكل طاغٍ، وفي مواجهة عدو شرس ومتفوق وقوي، ومدعوم أميركيا ومسنود دوليا، مسألة ليست بالهينة.. وصمود الثورة الفلسطينية وتواصل رايتها جيلا بعد جيل يعد معجزة بحد ذاتها، لكنها ليست بالغريبة على الشعب الفلسطيني.
ومنطق التاريخ يؤكد استحالة سحق شعب مناضل حي يطالب بحريته واستقلاله. ومهما كانت آلة القمع الإسرائيلية قوية ومتجبرة، فإنها لن تعني شيئا سوى إطالة أمد الصراع؛ فكل حرب تؤسس للتي تليها، وكل عنف يولد ردة فعل مساوية له، ومن رحم كل هزيمة عسكرية يُخلق جيل جديد من المقاومين.. الثورة انطلقت بعد النكبة، وانتصار الكرامة جاء ردا على النكسة، ومآثر الجنوب والعرقوب جاءت رداً على أيلول الأسود، والانتفاضة الشعبية جاءت لتعوض الخروج من لبنان، والانتفاضة الثانية جاءت ردا على عنجهية إسرائيل ورفضها القبول بشروط التسوية العادلة. وهكذا يستمر الصراع ويستمر النضال.
إسرائيل ما زالت جاثمة على صدر فلسطين، ما يعني أن جولات جديدة من الصراع آتية لا محالة. وكما قال أبو إياد: "إذا حدثت كارثة، أو أصيبت ثورتنا بالشلل، وتدمرت حركتنا، فهذه لن تكون المرة الأولى في التاريخ التي تنجح فيها القوى الرجعية في إجهاض ثورة؛ غير أن شعبنا سيفجر ثورة جديدة، وسينجب حركة أعظم، وقادة أكثر دراية وصلابة وأشد خطرا، فإرادة الفلسطينيين قوية، ونحن عازمون على البقاء كشعب، وسيكون لنا ذات يوم وطن".