النجاح الإخباري - في ظل الأزمات المتتالية التي تعصف في وجه المؤسسات الوطنية في القدس..

الواقع الأليم والدور الحكومي والرسمي المطلوب
 

بقلم: المحامي فادي حاتم عباس
عضو مجلس نقابة المحامين الفلسطينيين

 
ما لبثنا في السنوات الأخيرة إلا أن سمعنا بين الحين والآخر أزمة جديدة تعصف بإحدى المؤسسات التاريخية والوطنية في القدس بدءاً بأزمة مستشفى جمعية المقاصد الخيرية مروراً بأزمة شركة كهرباء القدس وانتهاءاً بأزمة مستشفى المطلع الرابض على قمة جبل الطور داخل المدينة المحتلة والمعني بعلاج مرضى السرطان من أبناء شعبنا، وتشابهت أسباب أزمة كل منها بتردي الواقع المالي للمؤسسة.
 
وإذا ما أمعنا في واقع المدينة المقدسة من استهداف ممنهج وواضح من قبل الإحتلال وأدواته لكل ما هو فلسطيني في المدينة من بشر ومؤسسات لخلق واقع مشوه للمدينة ومكوناتها الفلسطينية الشعبية والمؤسساتية، فإننا لا نتفاجىء من تراجع حالة التعبئة الوطنية التي اعتاد عليها أبناء شعبنا في الماضي تحديداً خلال الإنتفاضة الأولى المجيدة، رغم ما سطره المقدسيين من حالة تضامن رائعة خلال أزمة مستشفى المطلع في الأيام القليلة الماضية.
وأمام هذه السياسات ومحاولة الدولة القائمة بالإحتلال أسرلة كل شيء في المدينة، فإنه من البديهي القول أن المواطن المقدسي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يتمكن وحده من مواجهتها وهو حتماً يحتاج إلى حاضنة وطنية أشمل تكون سداً وسنداً منيعاً يتحصن به في هذه المواجهة الغير متكافئة ما بين دولة قائمة بالإحتلال والقوة العسكرية وشعب مقهور يعاني ويلات هذا الإحتلال. وأمام هذه الإجراءات نتساؤل ما هو الدور فلسطينياً الحكومي والرسمي المطلوب لصد هذه السياسات والإجراءات؟
وفي معرض مناقشة بعض من الأولويات المطلوبة، لعله من الواجب ابتداءاً التسليم أنه ومنذ انشاء السلطة الوطنية الفلسطينية وحتى اليوم فإن الدعم الرسمي والحكومي الفلسطيني لمدينة القدس ومواطنيها لم يرتقي إلى الإحتياج المطلوب أو الحد الأدنى منه. وأمام هذه التحديات الفريدة من نوعها التي تواجه القدس وسكانها ضمن جملة من السياسات التي تحكمها العقلية الكولونيالية الجشعة فإنه فلسطينياً لن نرتقي لمستوى الحدث بقرارات و/أو رد فعل ارتجالي لحدث معين. وحقيقة القول أن القدس تحتاج إلى استراتيجية شاملة واضحة المعالم والأهداف تتبناها الحكومة والمؤسسات الرسمية وتوفر لها الموازانات الفورية المطلوبة.
وفي هذا الإطار فإنني كمقدسي فلسطيني يشاهد ويلاحظ في أعين المقدسيين ما المتوقع أو الحد الأدنى المتوقع من الحكومة الفلسطينية في سبيل تعزيز صمودهم في مواجهة هذا الواقع الأليم، نجدها مسألة واضحة المعالم تقوم على جملة مرتكزات عملية قوامها الحفاظ على انسان فلسطيني مقدسي داخل المدينة يتباهى بهويته الوطنية والدينية.
ولعل هذه المرتكزات تقوم على جملة من القطاعات المركزية والتي من الواجب على الجهات الرسمية فلسطينياً أن تتبنى استراتيجية سريعة والشروع في تنفيذها فوراً بعيداً عن الصخب والضجيج الإعلامي والأضواء طالما أن الدولة القائمة بالإحتلال تشرع يومياً في تنفيذ جملة من اجراءات الأسرلة والتهويد.
هذه القطاعات التي سوف نعرج عليها في هذا المقال ترد على سبيل الأولوية وليس الحصر مطلقاً، وتتضمن قطاعات الإسكان، الصحة، والتعليم.
أولاً: قطاع الإسكان:
ليس سراً أن من أكثر المسائل التي تؤرق المواطن الفلسطيني المقدسي هو إمكانية إيجاد سكن مناسب يأوي أسرته، وفي هذا السياق من الضروري الإشارة أن طموح الفلسطيني المقدسي في السكن انحصر ولا يتعدى أن يملك شقة صغيرة وإن بلغت مساحتها  خمسون متر مربع فقط. فسياسات الدولة القائمة بالإحتلال النابعة من العقل الإستعماري باستهداف الأرض الفلسطينية في القدس من أعمال المصادرة وتعقيد إجراءات البناء وزيادة تكلفتها جعلت من المستحيل أن يتمكن الفلسطيني المقدسي متوسط أو فوق متوسط الدخل من تملك و/أو شراء عقار داخل حدود بلدية الإحتلال، وقد بلغ سعر الشقة العادية مليون ونصف شيكل في الحد الأدنى!!.
وبتأصيل هذه الحالة وأمام هذه المعضلة الحقيقية التي أفقدت المقدسي الفلسطيني قدرته على التركيز في أي منحى آخر من مناحي الحياة بإنحصار طموحه في تأمين شقة صغيرة للعائلة، فإنه من المؤكد أن تلقي هذه الحالة ظلالها على الشخصية الوطنية لكل مقدسي فلسطيني وعلى الدور الوطني المطلوب منه بل أيضاً على شعوره الوطني.
وأمام هذه الحالة، وأمام سباق الزمن الذي تكرسه الدولة القائمة بالإحتلال يومياً، هل لا زال منا مواطنين أو مسؤولين فلسطينيين من لا يؤمن أن هناك حاجة ملحة لا تستدعي التأخير للشروع في التنفيذ الفوري لاستراتيجية وطنية رسمية للإسكان في القدس لتمكين المقدسي الفلسطيني من السكن الملائم بشمولية هذه العبارة بما في ذلك التكلفة الواقعية والمنطقية؟! فالمواطن المقدسي يتساؤل في جنبات نفسه هل أقيم منذ خمسة وعشرون عاماً إسكان مدعوم من الجهات الرسمية للأزواج الشابة مثلاً، إن كان لا، لماذا؟!.
ثانياً: القطاع الصحي:
يرتبط المقدسيين الذين تمكنوا من تأمين سكن لهم داخل حدود بلدية الإحتلال بنظام التأمين الصحي الإسرائيلي، أما الفلسطيني المقدسي الذي لم يحالفه الحظ ولم تمكنه الظروف الإقتصادية كما أسلفنا سابقاً من تأمين عنوان سكن داخل حدود بلدية الإحتلال فإنه لن يتمكن من الحفاظ على ما يسمى بالتأمين الوطني وبالتبعية التأمين الصحي ويصبح من غير المتاح له تلقي الخدمات الطبية في المستشفيات الإسرائيلية. وفي الجانب الآخر، فإن الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة وضمن ظروف صحية معينة يحتاجون لتلقي الخدمات الصحية في مستشفيات خارج نطاق الضفة أو القطاع لعدم توافرها.

وفي هذا الإطار، أصبحت المستشفيات الفلسطينية داخل مدينة القدس والقائمة قبل إحتلال المدينة تشكل حالة جذب علاج اضطراري للمرضى الفلسطينيين من الفئات المشار اليها أعلاه. وفي هذا الإطار أيضاً يرى الفلسطيني في هذه المؤسسات بطبيعتها وتاريخها رمزية على هويتها الفلسطينية، ونشعر جميعنا بالفخر بوجودها.
وأمام هذه الحالة لا بد أن نحرص جميعنا على ديمومتها وصمودها، ونتألم عندما تعصف بها أي أزمة لأننا ندرك تربص الدولة القائمة بالإحتلال وأدواتها لها، فكم مرة اغلقت هذه المؤسسات وكم مرة اقتحمت!!
وفي هذا المفهوم، مفهوم الحرص على بقاء هذه المؤسسات الوطنية التي نرى في وجودها؛ أولاً عامل رئيسي ومهم في الحفاظ على هوية القدس العربية وتعزيز ارتباط المقدسي بهويته الوطنية وزيادة شعوره القومي في هذا الإتجاه كون المقدسي بأمس الحاجة إلى أن يلتصق بكل ما هو انجاز فلسطيني مشرف. وثانياً أن تشكل هذه المؤسسات المقدسية بديلاً للتحويلات الطبية من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الخارج بما يخدم شريحة واسعة من أبناء شعبنا بصناعة وأيادي فلسطينية خالصة. ومن هنا على الحكومة الفلسطينية الشروع في تنفيذ استراتيجية لهذا القطاع وتكريس كل الدعم المادي والمعنوي للحفاظ على هذه المؤسسات الوطنية.
ثالثاً: قطاع التعليم:
لعلنا جميعاً نتفق ان الاحتلال ومنذ اليوم الأول له قد تبنى سياسة تعليمية تهدف إلى تجهيل الشعب الفلسطيني، هذه السياسات وحتى اللحظة فشل الاحتلال نسبياً في تحقيقها.
أما وحالة القدس المحتلة التي حرص الإحتلال على عزلها عن امتدادها الجغرافي الطبيعي مع باقي مناطق الأرض المحتلة، فإنه لم ينفك يوماً على بناء نظام تعليمي يتبع مؤسساته وضمناً يحاول فرض مناهج تعليمية تحرف الطالب المقدسي عن هويته الفلسطينية، لأنه يدرك تماماً أنها ستنعكس على البنيان الوطني للطالب الفلسطيني في مدينة القدس.
ومن جملة جهود الإحتلال في أسرلة المناهج والتعليم في القدس بشكل عام فقد امتدت اجراءاته في محاولات فرض أجندته على المدارس الخاصة في القدس والتي بدأها حالياً في الدعم المادي لهذه المدارس كمقدمة أكيدة للتدخل في واقع هذه المدارس.
أمام هذه المنهجية والعقلية الاحتلالية التي لا تنفك عن تضييق الخناق على كل ما هو فلسطيني في المدينة بما في ذلك التأثير على المسار التربوي والعقلي لأطفالنا، نتساؤل هل يكفي الاستنكار الرسمي والحكومي أمام هذه الاجراءات؟
ان مواجهة هذه العقلية الاستعمارية تتطلب حتماً وجود رؤية لواقع التعليم في القدس وتوفير الامكانيات المادية اللازمة لتشكيل بديل حقيقي عن هذه السياسات حفاظاً على بنيان الطفل والشاب الفلسطيني، سيما وأننا جميعاً نؤمن أن مسار التعليم المبني على أسس وطنية  تحديداً في مرحلة الدراسة المدرسية بالضرورة يصقل شخصية وطنية مؤمنة بهويتها الفلسطينية، مسلحة بالوعي، ومدافعة عن حقها التاريخي في هذه الارض المقدسة.
وبناءاً عليه وقبل فوات الآوان على الحكومة والمؤسسات الرسمية الفلسطينية وضع خطة واستراتيجية سريعة مدعومة بالموازنات اللازمة لعزل سياسات الإحتلال المتسارعة في هذا القطاع وخلق حالة شراكة حقيقية مع المدارس الوطنية في القدس من خلال توفير احتياجاتها اللازمة وتشكيل حالة البديل الوطني الطبيعي أمام ماكنة الإحتلال التي تستغل الظروف المادية الصعبة لهذه المدارس، والتي كان الإحتلال بالأساس سبباً في أزمتها بشكل أو بأخر.
أخيراً ان الوقائع التي تحاول الدولة القائمة بالإحتلال ترسيخها في القدس، وإن نجح نسبياً في تحقيق جزء منها، والمتمثلة أولاً بتفريغ المدينة من السكان الفلسطينيين الأصليين ودفعهم للعيش في مناطق تبعد عن المدينة، وثانياً في تجهيل من تبقى من سكان أصليين في المدينة، لا يمكن مواجهته دون وجود استراتيجية وطنية موحدة تتبناها حكومة دولة فلسطين وتحشد وتجند لها كافة الإمكانيات البشرية والمادية والتي تقوم بشكل رئيسي على دعم المرتكزات الثلاثة أعلاه، على أمل أن تكون الأزمة الأخيرة التي عصفت في مستشفى المطلع/ أوغوستا فيكتوريا شرارة انطلاق عمل استراتيجي للحكومة الفلسطينية الجديدة في مدينة القدس.