عبير بشير - النجاح الإخباري - ربما نجحت الحكومة العراقية في السيطرة إلى حد ما على الاحتجاجات في بغداد والديوانية، والناصرية، والنجف، وجنوب العراق، والتي أدت إلى سقوط مئات القتلى والجرحى، بعدما فرضت حظر تجول على مدار الساعة، وأوقفت الإنترنت لبضعة أيام، وأعلنت عن حزمة قرارات للتخفيف عن المواطن العراقي، ولكن سيظل الأول من تشرين الأول يوماً مفصلياً، وهو أقرب إلى الجمر الجاهز للاشتعال في أي وقت. ومنذ هذا التاريخ لم يعد بمقدور النظام العراقي إنتاج نفسه، بالسهولة التي اعتاد عليها.
أحداث العنف في العراق، هي الأسوأ منذ هزيمة تنظيم «داعش» قبل عامين، كما أنها تمثل أكبر اختبار أمام رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي تولى السلطة قبل عام، والذي يمكن اعتباره آخر وجه لنظام 2003، والقادر نسبياً على الحفاظ على الاستقرار السياسي في هذه المرحلة بكل صعوباتها وأزماتها. وخصوصا أن عبد المهدي لاعب قديم ومتمرس في المشهد العراقي، بدءاً من المعارضة لنظام صدام، الموزعة على عواصم عدة بينها الحاضنة الإيرانية، وصولاً إلى تجارب عراق ما بعد «البعث» وهي  تجارب غنية ومكلفة.
واللافت أن معظم تظاهرات العراق، خرجت من البيئة الشيعية، ضد حكومة يقودها الشيعة، ولم يشترك فيها أي حزب سياسي، ولا أحد من أصحاب العمائم، بل إن معظم المتظاهرين هم من الشباب العراقي العزل، الذين فقدوا الثقة بنظام 2003 أي ما بعد سقوط صدام حسين، وسئموا الطبقة السياسية التي تصدرت المشهد العراقي منذ ستة عشر عاماً، وفاحت منها روائح الفساد بمليارات الدولارات، بينما الشعب العراقي يئن تحت وطأة الفقر، ورداءة الخدمات العامة، ويعاني من انقطاع مستمر للكهرباء، وشح المياه وتلوثها، وأعداد هائلة من العاطلين عن العمل، في بلد يمتلك أكبر احتياطيات النفط في العالم.
ولا يختلف متظاهرو الشهر الجاري، عن أولئك الذين تظاهروا في مدينة البصرة العام الماضي، بسبب شح الكهرباء وتلوث المياه، أو في عام 2016، عندما قام المتظاهرون الغاضبون بتسلق الجدران في المنطقة الخضراء في بغداد واقتحموا البرلمان العراقي، وهتفوا: «لصوص».
غير أن هذه أول مواجهة مباشرة بين النفوذ الإيراني وأدواته العراقية، وبين تظاهرات خرجت في المناطق والمدن ذات الأغلبية الشيعية منذ سقوط نظام صدام، وهتفت «إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة»، ولأول مرة، نستطيع أن نرى حراكاً شعبياً شيعياً حقيقياً، يقف في وجه مشروع إلحاق العراق بالوصاية الإيرانية، وإلغاء خصوصيته الثقافية والسياسية، معبراً عن رفض علني واسع للسطوة الإيرانية داخل المكون الشيعي الكبير. فقد هاجم المتظاهرون العراقيون الشيعة مقرات الأحزاب المحسوبة على طهران، وصولاً إلى إحراق العلم الإيراني، حتى أن المرشد الإيراني علي خامنئي وصف احتجاجات العراق، بأنها «مؤامرة من الأعداء، تهدف إلى التفريق بين إيران والعراق».
لقد انتهت عملية التخلص من نظام صدام حسين في العراق بمأساة، ويشكل النظام القائم حالياً في العراق، خير تعبير عن هذه المأساة التي حرمت العراقيين من ثروات بلدهم، التي ذهبت إلى جيوب الأحزاب الطائفية، والى «الحرس الثوري» الذي قام بنهب خيرات العراق على قدم وساق.
فبعد سقوط نظام صدام، أصبحت الطائفية وسياسات الهوية، فاقعة ومؤثرة بشكل كبير على تشكيل الحياة السياسة في العراق. وتحول ميزان القوى الطائفي بدرجة كبيرة لصالح الشيعة في العراق، وتمكنت أحزاب الشيعة، من فرض سيطرة شبه مطلقة على الجيش العراقي والمؤسسات الحيوية للدولة والموارد المالية والاقتصادية. طبعا كل ذلك تم، في ظل الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي. وسيطرت عقلية تقاسم الغنائم، والنظر إلى الدولة العراقية على أنها حقل مشاع، على الحياة السياسية لنظام 2003، حيث انشغل السياسيون العراقيون، بتوزيع المناصب والامتيازات على بعضهم البعض، على حساب قيام مشروع نهضوي متكامل في العراق، وتحسين البنية التحتية، وتطوير نظام التعليم والصحة، ودفع عجلة الاقتصاد.
وإذا كانت تجربة العراق تعني شيئا، فهي تعني أن الميليشيات الطائفية، لا يمكن أن تبني دولة، وحيثما تحل الميليشيات، يحل الخراب والفوضى.
ويمكن القول، بأن ما أشعل فتيل التظاهرات كان تنحية الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي الذي كان أحد أبرز قادة جهاز مكافحة الإرهاب -الفرقة الذهبية – التي تم تكليفها بالوقوف على الخطوط الأمامية طوال الحملات العسكرية ضد داعش، ولعب دوراً محورياً في تحرير الموصل، وقاتل تحت العلم العراقي فقط، على عكس الفصائل المسلحة الأخرى التي كانت تقاتل تحت الرايات الطائفية. فقد نقل إلى وظيفة إدارية في دائرة بوزارة الدفاع بما يشبه التقاعد، فرفع المتظاهرون صوره كزعيم وطني. على اعتبار أن عملية النقل هي آخر طعنة في صدر العراق والجيش العراقي، وتسليمه لقيادات الحشد الشعبي، ثم اختلط الحابل بالنابل وصولاً إلى سقوط مائة قتيل في عمليات كر وفر في شوارع بغداد.
وجاءت إقالة الساعدي بأوامر من قاسم سليماني، وذلك لأن طهران شعرت بخطر الساعدي كرمز وطني عراقي يجمع عليه الجميع، وخاصة عند مقارنته بالسياسيين الذين يسيطرون على المنطقة الخضراء في بغداد والذين ينظر إليهم العراقيون على نطاق واسع على أنهم فاسدون وعاجزون. وشكل الفريق الساعدي بديلاً وطنياً لطبقة سياسية طائفية وفاسدة، قادرة على اختراق الوجدان العراقي وتهدد التيارات الشعبوية الطائفية بمشروع شعبي وطني، والأحزاب السياسية ببديل لها يأتي من مؤسسة تمثل الهوية الوطنية الجامعة وهو الجيش العراقي، وهذا ما أثار هواجس عميقة لدى المسؤولين العراقيين، وطهران التي لا ترغب في بونابرت عراقي يعود من الجبهة إلى القصر.

الايام