عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - ثمة مقاربتان متناقضتان يمكن رؤية نتائج الانتخابات الإسرائيلية وفقهما أو كأنهما نتائج للنتائج. صحيح أن الفارق طفيف في تمثيل الأحزاب ولم يشكل فارقاً كبيراً إلا أن مدلولات هذا الفارق الطفيف كبيرة. ومع هذا فإن توقع حدوث تحول كبير في السياسة الإسرائيلية يبدو مجازفة غبوية في بعض الأحيان. النتيجة الأبرز، والتي بدورها تحيل إلى مدلولات الفارق الطفيف، أن نتنياهو قد لن يكون رئيساً للوزراء في حال نجح غانتس في تشكيل الحكومة وقد يذهب للسجن، وهذا بحد ذاته يعني انتهاء عهد طويل بدأ في منتصف تسعينيات القرن الماضي واستمر بتواتر مختلف لعشرين عاماً هيمن خلالها نتنياهو على المشهد السياسي الإسرائيلي. والنتيجة الأخرى الملاصقة لذلك أن عهد الجنرالات قد يكون عاد للظهور منذ أفول نجم الجنرال الأخير الذي ترأس الحكومة في تل أبيب: أيهود باراك، الذي تعثر في العودة للحلبة السياسية. وربما أن الجنرالات أكثر حساسية من الأيدلوجيين تجاه توصيات الأمن بشأن بعض القضايا الفلسطينية، دون أن يعني هذا أنهم أكثر تساهلاً، إذ إن العكس قد يكون صحيحاً فهم في القضايا الكبرى أكثر تطرفاً. ولكن هذا أمر متروك ليس للتقدير بل للتقييم بعد مرور الزمن. ومكمن المفارقة الثانية التي تشير بطرف خفي إلى عدم وجوب توقع حدوث تحول كبير في السياسة الإسرائيلية مع صعود الحزب الجديد هو أن هامش الاختلاف في العقيدة السياسية بين الأحزاب الصهيونية ليس كبيراً فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين.
فالبرامج الانتخابية للأحزاب الكبرى فقط تختلف في التعبير لغةً عن رفض المطالب الوطنية الفلسطينية، بمعني أنها تتفق على ما يجب على إسرائيل أن تحتفظ به وتحافظ عليه وتقاتل من أجله، لكنها تختلف كيف تعبر عن رفضها للمطالب الفلسطينية وبأي لغة: بلغة "لا" أم بلغة "نعم المشروطة" أم بلغة "لعم" دون فعل أي شيء. من المؤكد أن العبارة الفضفاضة "حل الدولتين" التي تبناها نتنياهو خلال محاولته للهرب للأمام في خطابه بجامعة بار إيلان لا تعني بأي حال حل الدولتين وفق الشرعية الدولية وليست ما يتطلع له الفلسطينيون، كما أن ممارسة نتنياهو بعد ذلك أثبتت أن هناك حلولاً عديدة وتفسيرات كثيرة لحل الدولتين لا يمكن أن تقود إلى نفس النتيجة. كما أنه من المؤكد أن تطلعات حزب "أزرق أبيض" الذي تأسس على مقولة إسقاط نتنياهو لا تشمل تحقيق السلام الشامل والحقيقي مع الفلسطينيين، إذ إن جنرالات الحزب هم ذاتهم من خاضوا الحروب الضارية وارتكبوا الجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين خلال العقدين الماضيين من اجتياح الضفة إلى آخر عدوان شامل على غزة عام 2014. صحيح أن عبارة حل الدولتين باتت لازمة للهرب للأمام وفق تقاليد نتنياهو في بار إيلان إلا أن ثمة إجماعاً على أن هناك تفسيرات عديدة "ومشروعة" وفق البرنامج الحزبي لهذه العبارة.
الأمر غير مرتبط بالتفاؤل أو التشاؤم وليس مجرد وجهة نظر. هناك بعض الثوابت التي باتت راسخة في الممارسة السياسية الإسرائيلية قد يكون من الصعب تخيل زوالها بتغير نتنياهو. هذه الثوابت أو ربما للتخفيف من وقع الكلمة المعطيات تسللت مع الزمن من أجندة أحزاب مختلفة بعضها صغير حتى أنه مع الوقت لم يعد يجد له مكاناً على مقاعد الكنيست. للنظر مثلاً إلى فكرة الضم الذي طرحها بينيت الذي شكل حزباً خاصاً بعد أن شغل مديراً لمكتب نتنياهو. الفكرة كانت أطروحة سياسية خاصة قبل أن يدخل بينيت الكنيست ثم تبناها حزبه وصارت جزءاً من النقاش العام في إسرائيل قبل أن تصبح جزءاً مهماً ليس في عقيدة الليكود بل في ممارسة حكومته السابقة. أيضاً الكتل الكبرى والنمو الطبيعي الفكرتان اللتان كان جزءاً من مناورات إسرائيلية عديدة للحد من تقدم المصالح الفلسطينية في أي مفاوضات سلام مستقبلية خاصة في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، مع الوقت باتتا جزءاً من الممارسة اليومية الإسرائيلية مصحوبتين بنمو جدار الفصل العنصري ونتائجه التي تعني أيضاً ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية والاحتفاظ بغور الأردن، وكل التفاصيل المتعلقة بذلك. حتى يهودية الدولة التي بادر إليها نتنياهو كمطلب اشتراطي لمواجهة المطالب الفلسطينية في المفاوضات والتي لم ينجح في فرضها إلا أنها في المحصلة النهائية وجدت طريقها البديل عبر قانون القومية الذي سيكون من الصعب إلغاؤه لاعتبارات فوق حزبية. بمعني أنها أكبر من برامج الأحزاب.
من ذلك يمكن الاستنتاج أن توقع حدوث تحولات كبيرة في السياسة الإسرائيلية قد لا يمت للواقع بصلة، ويعني عدم فهم السياق الانتخابي الإسرائيلية. فالمصوتون لم يصوتوا وفق وجهة نظر الأحزاب من الصراع وتصوراتهم لطبيعة الحل المرغوب أو المرفوض مع الفلسطينيين، رغم ما للصراع من تأثير على حياتهم، بل إن التصويت كان أكثر على شخصية رئيس الوزراء القادم، وربما ليس مستغرباً أن يكون الفارق بهذا القدر من الضآلة. صحيح أن شخصية رئيس الوزراء تحدد توجهات التعامل مع الفلسطينيين، لكن هذا العامل ليس حاسماً؛ إذ إن اليمين الرافض للحل مع الفلسطينيين (وليبرمان جزء منه) ما زال يهمين على المركب البرلماني بعد الانتخابات، مع ضرورة عدم إغفال يمينية الحزب الحاكم الجديد وصقورية جنرالاته.
قد يكون نتنياهو قد ذهب، لكن عهده لم ينته. والمواقف التي تبناها قد يكون من الصعب على خلفه التنازل عنها أو إغماض العين عنها. فلسطينياً دفع نتنياهو ثمن مواقفه الكارهة للسلام، لكن لا يمكن أن يقود هذا للاستنتاج أن خلفه سيكون محباً للسلام. بعض التفاصيل الصغيرة مع هذا تعني الفلسطينيين كثيراً في كل هذا النقاش، إنها التفاصيل التي لا تمس جوهر الصراع ولا تفرض عليهم شروطاً لحل لا يقبلونه.. أشياء كثيرة يصعب التنبؤ بها.

 

الايام