عادل الأسطة - النجاح الإخباري - كان علي أن أزور يافا ثانية لأكتب عنها، وحين زرتها، الأربعاء الماضي، دخلت إليها في السادسة مساء ولم أنفق فيها نهارا سوى ساعتين وليلا سوى ساعة ونصف الساعة.
في الليل وأنا أنظر إلى البحر وأصغي إلى هدير أمواجه رأيت البحر وحشا يدخل الرعب في النفس. رأيته غامضا حقودا، بخلاف ما رأيته عصرا ومغربا. كانت الشمس تسقط في البحر، ومن هذا المنظر استوحى محمود درويش قصيدة "برتقالية" وشبه بالشمس البرتقال "لنا شمس في سلال الفواكه".
احترت في الكتابة، فالجمعة ذكرى وفاة الشاعر، والأحد العيد، وأنا أريد مواصلة الكتابة عن يافا (انظر مقالي في الأيام الفلسطينية ١٦تموز ٢٠١٩).
في السابعة والربع صباحا، كان موعد انطلاق الحافلة، ولدقتنا في المواعيد فقد انطلقت في الثامنة، وتكرر الالتزام بالمواعيد في القدس وهرتسيليا ويافا.
في القدس، وجب أن تنطلق الحافلة في الواحدة والنصف، وفي هرتسيليا وجب أن نغادر الشط في الخامسة والنصف، وفي يافا اتفقنا على أن ساعة الرواح هي التاسعة والنصف.
تركنا القدس وراءنا في الثانية والنصف، وهرتسيليا في السادسة، وودعنا يافا في العاشرة والنصف، وكانت المرأة التي تجلس إلى جانبي تسألني عن التوقيت الصيفي والتوقيت الشتوي. هل كانت المرأة ترى أننا ملتزمون بالوقت وأن مرد الاختلاف هو عدم الاتفاق على أي التوقيتين؛ الصيفي أو الشتوي، هو المقصود؟ ربما، فقد عزت المستشرقة الألمانية (انجليكا نويفرت) الخلاف الفلسطيني - الإسرائيلي إلى "حواجز لغوية بين جيران"، ورأت أن محمود درويش هو المسؤول عن الإرباك الذي سببته قصيدته "عابرون في كلام عابر".
هل كان عدم الالتزام بالموعد إذن يعود إلى عدم اتفاقنا على التوقيت الصيفي والشتوي؟!
في الصباح، وأنا أسأل عن الحافلة التقيت بأحد طلابي يقف قرب حافلة أخرى ستنطلق إلى القدس، وتجاذبنا أطراف الحديث وسألني عن وجهة سفري فأجبته.
قال لي طالبي:
- من المؤكد أن القدس لا تعني لك أكثر من زيارة عابرة، فيافا قصدك وهرتسيليا.
كنت علمت الطالب مساقا عن القدس، وقلت له:
- أنت تعرف رأيي. يافا والقدس وحيفا لي مدن فلسطينية ولا فرق بينها.
لم أر طالبي في القدس، فقد علمت أنه أوصل أهله وعاد لعدم حصوله على تصريح.
في الأقصى، سألت طالبا ثانيا علمته المساق نفسه، إن كان زار كنيسة القيامة أو حارة اليهود/ الشرف أو سوق الباشورة.
مؤمن يصلي ويصوم، وقد عرفت هذا من خلال وجوده في الأقصى، وعندما دعوته إلى حلويات جعفر اعتذر بأنه صائم.
لأول مرة يدخل مؤمن، الذي زار، من قبل، القدس مرارا ، لأول مرة يدخل إلى كنيسة القيامة، ولما رآها قال لي إنه يفهم الآن سطر محمود درويش
- "أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟".
كلما زرت القدس اشتريت كعكا مقدسيا وهذه المرة أفطرت منقوشة زعتر. كان صاحب المطعم نزقا عكر المزاج، وحين سألته عن السعر ولاحظ أنني أميل إلى الدعابة في حديثي استبدل البسمة بالكشرة - يدخل حرف الجر على المتروك.
وأنا أسير في شوارع القدس العتيقة أبدأ حديثا مع المواطنين لأصغي إلى آرائهم فيما هم والقدس فيه.
دخلت إلى مكتبة قرب إحدى بوابات الأقصى أسأل عن رواية عدنية شبلي "تفصيل ثانوي" فلم أجد ضالتي، وتحدثت مع صاحب محل كانت لهجته تقطر حزنا ومع ذلك لم ينل منه اليأس، فالقدس عرفت شعوبا وقبائل ودولا. دالوا وزالوا. هل كان تميم البرغوثي أصغى إليه وهو يكتب قصيدته وخلص إلى "في القدس من في القدس، ولكن لا أرى في القدس إلا أنت".
جلست، وأنا خارج من البلدة القديمة، في مقهى عابر أرتاح.
ثمة امرأة سبعينية تقدم المشروبات الباردة والساخنة للرواد. سألت المرأة عن مشروب غازي بلا سكر فاعتذرت لعدم وجوده ولم تصر المرأة على ضرورة أن أشرب شيئا ما، وتركتني دون أن تقول لي إن المكان يدفع ضرائب وهي ليست هنا لتقديم صدقات جارية على روح أمها، فتذكرت بعض أصحاب المقاهي في مدن أخرى ممن يصرون على أن تشرب شيئا.
في الطريق إلى هرتسيليا أنظر في جانبي الطريق وأمر بتل أبيب ويافا.
- هل كان علي أن أظل في الحافلة وأذهب إلى هرتسيليا؟
- "حلب قصدنا وأنت السبيل" قال المتنبي. وكان قصدي في الأصل يافا، وكان لي هدف هو أن أمعن النظر في المدينة لأنهي كتابا أعكف على إنجازه.
قبل يومين من الرحلة قرأت في وسائل التواصل الاجتماعي فقرة يهاجم كاتبها فيها أولئك الذين يزورون فلسطين الداخل، ويزعم أنهم مطبعون، فعقبت بدوري محتجا إن ما نقوم به ليس تطبيعا على الإطلاق، وإننا نزور مدننا وبلادنا وكنا نفعل هذا قبل ١٩٨٧ ولم نكن نطبع، بل وأصررت في ردي على ضرورة زيارة حيفا ويافا وعكا لتنطبع صورها في ذاكرتنا ولنتعرف عليها.
على شاطئ هرتسيليا أنفق ساعتين أتأمل البحر وانعكاس أشعة الشمس على صفحته. بدا البحر أزرق يلمع وكانت النساء غير العربيات يرتدين المايوهات كأنهن مصبوبات صبا. وأنا جالس تذكرت خليل مطران على شط الإسكندرية وهو عليل يتشافى. مم أتشافى أنا؟ إنني عابر في هذا المكان. هل تساءلت من العابر فينا: نحن أم هم؟
كان الشباب يسبحون وكانت النسوة الفلسطينيات يرتدين الملابس الشرعية أو الأوروبية التي تستر أجسادهن وكان ثمة شاب سوداني أو أثيوبي يبيع التذاكر لمن يرغب في الجلوس على كرسي تحت مظلة تقيه أشعة شمس آب اللاهبة، وكان ثمة آخر يبيع الآرتيك "آرتيك. آرتيك" والآرتيك هي البوظة والاسكيمو. هل بدونا استثناء أم بدا الشابان السودانيان أو الأثيوبيان هما الاستثناء.
كنت أتأمل البحر وأتساءل:
- بم يشعر هذان في هذا العالم الأبيض؟
الفتاتان اللتان كانتا بالقرب مني كانتا أوروبيتي الشكل تماما.
- "حلب قصدنا وأنت السبيل".
وكنت أفكر متى أصل يافا.
في السابعة إلا ربعا كنت على شاطئ المدينة. لم تكلل الزيارة بالنجاح، فلم أر المدينة نهارا بما يكفي. لقد أختار أكثرنا ركوب السفينة وكان علي الانتظار حتى يعودوا.
على شاطئ المدينة ثمة مطعم لافت، بالإضافة إلى مطاعم أخرى. إنه مطعم "العجوز والبحر" وفي الثامنة وحتى التاسعة كان الزبائن يفدون. المطعم يملكه عربي من يافا وعماله يتكلمون العربية ورواده خليط من العرب واليهود.
- ماذا بقي من يافا في يافا؟
أسأل نفسي وأنا أتجول في البلدة القديمة.
أسير بصحبة فلسطيني من نابلس عمل في المدينة ثلاث سنوات وقد أخذ يشرح لي عن الأماكن القريبة من الساعة وفرن "أبو العافية"، وكنت أسأل عن أسماء الشوارع شارعا شارعا.
وأنا أتحدث مع رفيقي انضم إلينا مواطن يافاوي كان بصحبة زوجته. الرجل من مواليد يافا في ١٩٤٠، وهو من عائلة أبو قاعود وقد درس الرياضيات في جامعة تل أبيب وعمل مدرسا وتقاعد منذ ست سنوات تقريبا وقد أخبرنا أنه يقيم في عمارة تتكون من إحدى عشرة شقة وأنه المسلم الوحيد من سكانها. أفاض الرجل في الحديث والإجابة عن أسئلتي حول المكان، ولما كانت زوجته تقف قريبا منا فقد أضطر للاعتذار لنا واللحاق بها.
- هل خطر ببالي وأنا على شاطئ البحر سطر الشاعر أحمد دحبور: "يا طيورا طايرة بلغي دمعة أمي أن حيفا لم تزل حيفا!" محورا: "أن يافا لم تزل يافا".
أبو حسن أبو قاعود قال لنا، إن الكثير من معالم يافا تغيرت، وأنا كنت في يافا ولم أكن فيها، ولا بد من أن أذرع شوارعها شارعا شارعا لأكتب عنها.
كان الليل قد أليل وكان البحر السماوي اللامع في منتصف النهار يتحول رويدا رويدا إلى البني القاتم المظلم وكان ثمة وحش أسطوري يتسلل إلى أعماقي.
هل كتبت كل شيء؟
في الصباح، كنت تذكرت أغنية أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية. إلى فلسطين خذوني معكم يا أيها الثوار. إلى فلسطين طريق واحد يمر عبر فوهة بندقية" وحين ذهبنا إلى يافا ثانية وثالثة بعد خمسين عاما مررنا عبر معاطة في معبر قلنديا كما لو أننا دجاج. هل كتب اسحق موسى الحسيني روايته "مذكرات دجاجة" ١٩٤٣ عنا؟

الايام