عبير بشير - النجاح الإخباري - انغمس محمد الباجي قايد السبسي في اللعبة السياسية في تونس بمدها وجزرها، ومراحلها الساخنة متعددة الألوان والأنفاس إلى أن غادرها وهو في الثانية والتسعين عاما، مدافعا عن قيم الجمهورية التي أسسها أستاذه الحبيب بورقيبة. ومر بكل المهمات والوظائف الصغيرة والكبيرة، وأجاد لعبة التوازنات، وفن إدارة المعارك.
الباجي الإنسان والسياسي والمحامي، الذي كان من طلبة المدرسة الصادقية في تونس التي جمعت بين العلوم الدينية الإسلامية والإنسانية، والذي درس الحقوق في جامعة السوربون في فرنسا المستعمرة.
علاقته بالزعيم المؤسس الحبيب بورقيبة بدأت أبوية فكرية وسياسية.
استعان الحبيب بورقيبة في مرحلة النضال من أجل الاستقلال بنخبة سياسية كبيرة ساهم في تكوينهم السياسي والفكري، وشاركوه في تحقيق الأهداف الوطنية.
 وبعد حصول تونس على الاستقلال وإنهاء مرحلة حكم البايات، أصبح الباجي أحد أركان نظام بورقيبه، وخدم في مناصب وزارية متعددة، بما في ذلك وزيراً للخارجية، ووزيراً للداخلية.
ولكن لم يكن الباجي السبسي، مجرد مريد صامت ينفذ ما يأمره به أستاذه الزعيم، ولم يقبل أن يعيش في جلباب المجاهد الأكبر "بورقيبة" مجرد تابع.
كذلك لم تكن النخبة السياسية داخل "الحزب الدستوري" مجرد تابع مطيع للزعيم المؤسس "بورقيبة"، بل كانت صفوة مثقفة تبنت رؤيته، لكنها شكلت خلايا رأي داخل الحزب.  قامات فكرية مثل الحبيب بو العراس، ومحمد المستيري، ومحمد مزالي، والباجي قايد السبسي، وأحمد بن صالح.
 وبعد الإطاحة ببورقيبة في عام 1987، تحالف السبسي بشكلٍ براغماتي مع الحاكم الأوتوقراطي الجديد في البلاد زين العابدين بن علي، وشغل منصب رئيس مجلس النواب ما بين عامي 1990 و 1991.
حمى السبسي تونس الخضراء من الفوضى والانهيار، بعد أحداث الربيع العربي، واستطاع السبسي أن يضبط حركة البراكين السياسية الخامدة في تونس، عندما عقد توافقاً وطنياً مع خصمه الأول، رئيس حزب النهضة الإسلامي راشد الغنوشي، بسبب خبرته السياسية الطويلة، وتاريخه الوطني.
فبعد تولي فؤاد المبزع الرئاسة المؤقتة، خلفا لزين العابدين بن علي، عين السبسي، رئيساً لوزراء تونس، التي كانت تعيش حالة من السيولة الساخنة وهيجان مسلح في الجارة الأقرب ليبيا.
السبسي الذي قضى اعواما بعيدا عن العمل السياسي، على إثر انغلاق حكم زين العابدين بن علي أوائل التسعينات، ظهر فجأة بعد ثورة الياسمين، كشخصيّة سياسية خارجة من الأرشيف حسب ما وصفه به خصمه اللدود راشد الغنوشي.
فقد كانت تونس تفتقد لسياسيين محنكين قادرين على إدارة فترة ما بعد الثورة وما صاحبها من أفكار راديكالية تدعو إلى القطيعة وإلغاء الماضي. وهنا تبرز المفارقة الكبرى! فقد استأمنت القوى السياسية الفاعلة الباجي قائد السبسي من الجيل البورقيبي  على أهداف الثورة.
 هنا عاد السبسي بقوة جديدة قديمة ليخوض معركة الانتقال السياسي بالغ التعقيد في حالة هشاشة شاملة. تقدم السبسي وهو مسلح بمنهج "بورقيبه"، الذي يقوم على أساس الوسطية، و"خذ وطالب"، والقدرة على تكوين الأجسام السياسية القادرة والمناسبة، وتعايش مع حكومة الترويكا برئاسة النهضة. 
جمع السبسي المثقفين والسياسيين المعزولين، في عام 2012 ، ووحد اليساريين ونخب النظام القديم والعلمانيين المتشددين في جبهة موحدة "نداء تونس"، وواجه بالخائفين على تونس المدنية، جماعة "الإخوان" في ذروة انتشائهم، وتمكنهم من تونس. يومها صار في عيون الكثيرين منقذاً واستفاد من خوف الحداثيين من المخاطر التي كانت تهدد حقوق المرأة ومكتسبات تونس الحديثة.
فاز الباجي السبسي في أول انتخابات رئاسية حرة ونزيهة على منافسه المدعوم من جبهة النهضة منصف المرزوقي عام 2014، وهو في الثامنة والثمانين. واعتبر في مقال له في صحيفة الواشنطن بوست، أن فوزه هو انتصار على أفكار النهضة الرجعية، وألمح إلى أن الطبقة الوسطى الضخمة والعلمانية في تونس قد اختارت طريق “الحداثة” بانتخابه رئيساً للجمهورية.
كان  السبسي صريحاً في حديثه، حاداً في تلميحاته الديبلوماسية. لقد عركته السنون، وسقته الأيام مضادات المراحل، فأحكم حركة منافسيه على المسرح السياسي. ولم تعقه العقود التسعة من ضبط اتجاه الدولة والمجتمع. 
وكثيراً ما تحدث السبسي بإعجاب عن المدرسة البورقيبية في السياسة والإصلاح والتحديث، وبلغ به التمسك بهذه الرمزية البورقيبيّة بعد ثورة الياسمين، حد التشبه به في تفاصيل كثيرة في الإرث البورقيبي، ومنها مبادرته بتقديم مشروع قانون للمساواة في الميراث بين الرجال والنساء إلى مجلس نواب الشعب التونسي. وقد أثار هذا القانون، رفضا في المؤسسات التونسية ذات المرجعية الدينية، واعتبرها البعض مناورة سياسية يقصد من ورائها إلى مغازلة أصوات الناخبات استعدادا لانتخابات 2019.
في حين يرى البعض، أن هذا المشروع هو ثورة اجتماعية ثانية بعد قانون مجلّة الأحوال الشخصيّة التونسي "مدونة الأسرة" الذي وضع بمبادرة من بورقيبة. وفكرة المساواة في الإرث ليست جديدة في الثقافة المدنية الإصلاحية التونسية إذ نجدها في كتاب المفكر الطاهر الحداد الصادر سنة 1930 "امرأتنا في الشريعة والمجتمع". أما بورقيبه، فقد بحث عن صيغة لتقنين المساواة في الميراث بتأويل ديني معين، ولكنه أخفق خصوصاً أن السياق التاريخي شهد صعود الفكر الوهابي، فكفره ابن باز في بداية السبعينات علاوة على ضعف قدرة بورقيبة على خوض المعارك آنذاك.
وفي عهد السبسي، شهدت تونس هجومين إرهابيين. ففي مارس 2015، قام إرهابيان بمهاجمة متحف باردو الوطني في العاصمة التونسية، ما أسفر عن مقتل 22 شخصا. وبعد ثلاثة أشهر، أدى إطلاق نار في مدينة سوسة الساحلية إلى مقتل 37.
ويرجع الفضل للسبسي، في السيطرة على الهجمات الإرهابية، ولكن الفساد المتنامي والمحسوبية وثقافة الإفلات من العقاب، شكلت تهديداً أكبر للديمقراطية التونسية من التهديد الذي يشكله الجهاديون. 

الايام