عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - مثير للدهشة هذا الذي شهدناه واستمعنا إليه على لسان أحد قادة حركة حماس حول مصانع الأحزمة الناسفة، وحول طوابير الذهاب إلى الموت، وحول كل أنواع الصواريخ التي تتأهب لدك إسرائيل.
ومثير للدهشة أكثر ما جاء على لسانه حول تحديد إنذار نهائي لإسرائيل بما لا يتجاوز الأسبوع الواحد لكي "تلتزم" بالتفاهمات وفك الحصار وإلاّ.... .
سارع البعض من داخل حركة حماس نفسها للتعبير عن "عدم الرضى"، بل واستغراب صدور مثل هذه التصريحات، وحذروا من إمكانية أن تستغل إسرائيل هذه الأقوال لتبرير عمليات قتل جماعية في قطاع غزة، وأن تستثمرها "لتبرير" عدوان إسرائيلي واسع على القطاع، خصوصاً وأن الأجواء قد توترت في الأيام القليلة الماضية، وشحنت بما يكفي لعملية تصعيد خطيرة. في ذات الوقت قال نتنياهو إن جيشه ينتظر الإشارة فقط لانطلاق عملية عسكرية كبيرة في القطاع، وفي نفس الوقت، أيضاً، وصل الوفد المصري فيما بدا وكأنه على عجل خوفاً من انفجار الوضع، بعد قتل إسرائيل لأحد المقاومين، ثم تأكيدها أن القتل لم يكن مقصوداً.
وسط كل هذه الأجواء جاء ما جاء على لسان هذا القيادي في حركة حماس.
أول ما يُلفت الانتباه أن "عدم الرضى" و"الاستغراب" لم يأخذ أي صفة رسمية حتى الآن، ولم يصدر أي بيان رسمي عن جهة رسمية أو مخوّلة من حركة حماس، لا شجباً ولا استنكاراً، أو تأكيداً أو تأييداً، وهذا الأمر بحدّ ذاته له من الدلالات ما يجب الانتباه إليه، وما لا يجب اعتباره من الأمور العادية التي لا تستدعي الردّ أو اتخاذ الموقف.
وهنا يوجد في الواقع عدة احتمالات لهذا السكوت.
فإمّا أن حركة حماس ليست راضية هي الأخرى عن هذه "العنتريات"، ولكنها لا ترغب في الظهور بمظهر الحركة المنشقة على نفسها أمام الإعلام، وأمام باقي الفصائل، وأمام الناس قبل كل شيء..، وإمّا أنها راضية في الواقع، وهي أرادت أن ترسل برسالة معينة لإسرائيل عموماً ولكن برسالة خاصة للمصريين، أيضاً.
لاحظوا أن هذا القيادي ركّز كثيراً وردّد وأعاد ترداد كلمة "الوسطاء" لمرات عدة وبتأكيد خاص.
وهذا الأمر بحد ذاته هو الأخطر ـ كما أرى ـ لأن المقصود به أن حركة حماس فهمت أن التهدئة لا تذهب في أبعد التقديرات إلى فك الحصار، وأنها (التهدئة) هي مجرد تخفيف مشروط لهذا الحصار، وان إسرائيل تمسك بهذه الورقة وتتحكم بها.
وبهذا المعنى فقد خسرت حركة حماس الرهان على فك الحصار، وهي مجبرة على التخلي عن كل "الوسائل الخشنة"، إن هي أرادت أن تستمر بهذه التهدئة التي أصبح سقفها محدداً ومعروفاً.
باختصار التهدئة كما هي واقعياً اليوم هي هدوء مقابل هدوء، وتخفيف مشروط للحصار، مقابل إجراءات ملموسة في وسائل التعبير الحمساوية في سياق المسيرات، وضوابط صارمة لهذه الرسائل، وكل ذلك تحت طائلة منع الأموال والذهاب إلى معركة كبيرة، قال عنها نتنياهو إنها ستكون مدمّرة وقاسية وستحصد آلاف الضحايا.
ولهذا فإن الأمر ليس مجرد عنتريات طائشة، أو زلة لسان في لحظة انفعال وحماسة، وإنما رسالة أرادت من خلالها حركة حماس أن تصيب أربعة أو خمسة عصافير بطلقة واحدة.
ومن هذه الزاوية فإن الذين عبّروا عن استغرابهم وعدم رضاهم عن تلك التصريحات العنترية إما يعرفون هذا الواقع، ويحاولون الالتفاف عليه من خلال "تبادل" معين للأدوار.. وإما انهم لا يعرفون حقيقة التفكير الرسمي الحمساوي وهذا الأمر مستبعد تماماً واحتمالاته ضئيلة للغاية.
فإذا كانت حركة حماس ذاهبة للموافقة على التهدئة بشروطها الجديدة، وهي شروط سيئة ومذلّة في الواقع، فلا بأس أبداً من "موجة عنترية" من هذا النوع، كغطاء لما ستوافق عليه، وكنوع من الدخان الذي يهدف لتمرير الموافقة تحت وابل من القصف الإعلامي الذي يمهد لهذه التهدئة.
وهنا تكون حركة حماس قد حاولت أن "تُرضي" الفصائل، وأن تقدم لها هذه "الرشوة" السياسية والإعلامية أملاً بأن لا تؤدي الموافقة اللاحقة على التهدئة الجديدة إلى توتر مع هذه الفصائل التي ما زالت ترى أن هناك مشروعاً قائماً اسمه مشروع "المقاومة".
تعرف حركة حماس جيداً أن العنتريات التي استمعنا إليها وشاهدناها بالصوت والصورة يمكن أن تستثمرها إسرائيل بصورة بشعة، وأن تستخدمها أبشع استغلال في القتل والتدمير القادمين لا محالة (على ما تبدو عليه الأمور)، ولكنها آثرت السكوت عنها، لأن حركة حماس عرفت المأزق الجديد الذي توشك أن تدخل نفسها فيه إن هي ارتضت هذه التهدئة.
لم يعد أمام حركة حماس (كما أرى) غير الموافقة، والسبب هو قراءة حركة حماس للتطورات الداخلية الإسرائيلية من جهة، وقراءة حركة حماس لمسألة المصالحة من جهة أخرى.
ومفاد القراءة هنا وهناك هو أن نتنياهو ليس لديه من استراتيجية ثابتة ـ كما نعرف جميعاً ـ غير البقاء في الحكم، وإذا خُيّر بين أن يذهب إلى حرب على القطاع تساهم في بقاء حظوظه قائمة للنجاح في الانتخابات، أو الاستمرار في لعبة "إبقاء" حكم حماس في القطاع والإصرار على بقاء حالة الانقسام فإنه سيختار الحرب على غزة.
الأمور في إسرائيل تضع نتنياهو أمام هذين الاختبارين عند درجة معينة من تطور الأوضاع السياسية في إسرائيل.
أما إذا قبلت حركة حماس بالتهدئة بالشروط الجديدة، فإن نتنياهو يكون قد حقق الهدفين معاً.
لذلك يضيق الهامش، وتضيق مساحات المناورة عند حركة حماس، وهي تحضر المناخ لكي توافق على التهدئة الجديدة.
وأما من الجهة المقابلة فإن حركة حماس لديها استراتيجية ثابتة وواحدة، وهي البقاء متحكمة بالقطاع.
المصريون على ما يبدو قطعوا شوطاً مهماً في ترسيخ اتفاق 2017 كاتفاق أساس، وعلى ما يبدو فإن حركة حماس أو بعض أجنحتها لا يروق له هذا التقدم، وربما أرادت أن تذكر المصريين بأن لديها ما تفعله، وما تقوم به إن هي رغبت بمنع المصالحة وإنهاء الانقسام.
لهذا كله فهي ليست عنتريات طائشة وإنما رسائل متعددة الأهداف والعناوين، وفيها من الدلالات ما يعكس عمق المأزق وتداعي استراتيجيات التحكم بالقطاع، خصوصاً وأن صاحبها ليس رجلاً على هامش الحركة، بل ويُقال إنه متنفذ على أعلى الدرجات.