رامي منصور - النجاح الإخباري - قد يبدو أمرًا مستغربا أن يكتب أحد في أيامنا عن اليسار، في ظل صعود اليمين عالميا، وقد يبدو أمرا مستغربا أكثر ألا نرى أن اليمين يهيمن على ساحتنا السياسية، سواء في الانتخابات البلدية أو البرلمانية. وقد يسأل سائل هل انعكس صعود اليمين عالميا علينا في الداخل؟ هل هذا معقول؟

صعود اليمين غربيًا، لا يعني صعود التطرف ضد المهاجرين واللاجئين فقط، ولا الشعبوية، بل يعني أساسا تحلُّل الأخلاق في السياسة، لأن الشعبوية ومعاداة مجموعة من البشر لا تعني مجرد تطرف في المواقف، بل تغليب النفعية السياسية على الأخلاق. أي أن أزمة صعود اليمين في جوهرها هي أزمة أخلاقية، بانعدام الضوابط في الخطاب السياسي من أجل تحقيق مكاسب سياسية.

في المقابل، لا يعني اليسار التقدمية والتنوير، لأن تيار التنوير والتقدم والحداثة منذ قرون قاده أيضا مفكرون يمينيون ومنهم عنصريون. كان أدموند بيرك يمينيا لكنه كان في الوقت نفسه تنويريا. فالإنسان والعقلانية هما ركيزة التنوير، وهي ليست حكرا على اليسار. في القرن العشرين ظهرت تيارات سياسية ترفع راية الحداثة والتنوير والتقدم لكنها كانت فاشية، في مقابل تيارات يسارية رفعت راية الحداثة والتنوير لكنها قتلت من البشر ما لا يقل عن ضحايا الفاشية.

ومن يعتقد أن قيم العدالة والمساواة والحرية هي قيم حصرية لليسار، فإنك قد تجدها بسهولة لدى تيارات يمينية. فبمعاييرنا اليوم؛ العديد من فلاسفة التنوير الذين يعتدُّ بهم اليسار، هم يمينيون وعنصريون ومذهبيون.

لكن كيف يمكن ربط هذا كله بواقعنا والادعاء أن لا يسار لدينا؟ الإجابة تكون بتحديد ما هو اليسار في أيامنا. اليسار في أيامنا يعني المساواة بين البشر بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني أو القومي، ويعني العدالة الاجتماعية التي لا تقبل الواقع وتحاول تحسين ظروفه، بل تسعى إلى قلبه وإعلاء صوت المستضعفين وتمكينهم للتأثير والتغيير. اليسار يعني الاستقامة الأخلاقية.

لكن أليس اليمين أيضا يحمل قيمة الاستقامة؟ صحيح في الظاهر، خطأ في الباطن. اليمين يتعامل مع الأخلاق على أنها نسبية. عن العبودية في أوروبا، يقول اليمين، غير أخلاقية، لكنها في أفريقيا أخلاقية نسبيا، لأن هناك سياقات اجتماعية وتاريخية. عن استغلال الأطفال يقول اليمين إنه محظور في أميركا لكنه شرعي في الصين، لأن هناك فروقات حضارية واجتماعية وثقافية. اليسار يرفض هذه النسبية، ويرى أن الأخلاق كونية، فما يسري على أميركا يسري على الصين. العبودية واستغلال الأطفال والتطهير العرقي أمورٌ غير أخلاقية بالمطلق.

اليمين في تكوينه الجيني نفعي، الغاية تبرر الوسيلة. اليسار في تكوينه الجيني أخلاقي بالمطلق. الأخلاق لا تتجزأ، يذهب بالأخلاق حتى النهاية. السياسة بالنسبة لليمين ميدان توازنات، أما اليسار فالسياسة بالنسبة له ميدان صراع على القيم، وأولها كرامة الإنسان.

هذا هو جوهر الفرق بين اليمين واليسار. اليمين نسبي نفعي أخلاقيا، واليسار مطلق مبدئي أخلاقيا.

ماذا تبقى لدينا من هذه المبدئية؟ تؤكد الممارسات السياسية والحزبية على أرض الواقع أن وجهتنا السياسية نحو اليمين: الغاية تبرر الوسيلة، انعدام التمايز السياسي بين التيارات المختلفة، التخلف في المواقف الاجتماعية بتبني المحاصصة الطائفية في الحسابات السياسية التي تبنى على حسابات ربح وخسارة، التنازل عن شرائح مجتمعية واسعة في التمثيل السياسي، الابتعاد عن العمل الجماعي بين الناس والتركيز على الفردانية والنجومية والبرلمانية، الديمقراطية الأداتية اللامساواتية، الرجعية في المواقف السياسية بدعم مستبدين ووكلاء للاحتلال، والأهم الانفصال عن الواقع أو عدم رؤيته بشكل شامل.

إلى ماذا تؤشر هذه الظواهر؟ تؤشر إلى تراجع الأخلاق في السياسة، حتى لو غلّف ذلك بشعارات المصلحة الوطنية البعيدة عن الواقع، وتحول العمل السياسي إلى ارتزاق والنضال إلى عمل برلماني ونجومية.

في العالم تجارب عديدة أفرز فيها اليسار قادة ومواقف دموية، لكنه انتهى إلى الفشل، كان يشعر بأنه يسار لكن ممارساته على أرض الواقع يمينية، ودفع الناس نحو اليمين والشعبوية بسبب استيائهم من ممارسات المحسوبين على اليسار.

ما تحتاجه اليوم الحركة الوطنية والسياسية في الداخل هو اليسار، بما يحمله من قيم أخلاقية ومبدئية، وليس لمؤسسات أو مأسسة قد تتحول إلى مرتع للارتزاق والانتهازية والوصولية.

ما تحتاجه الحركة الوطنية ليس تنظيما حزبيا جديدا ولا إطارا نخبويا آخر، بل العودة إلى الأصل، إلى الميدان والناس، بحركة شعبية اجتماعية تخوض النضالات في الميدان يكون التزامها لمبادئها وليس إلى هيكلها، التزام أخلاقي بهموم المستضعفين السياسية والاجتماعية، وليس خطاب وصاية بادعاء التمثيل السياسي والنيابة. يسار لا تهمه الحسابات السياسية والانتخابية الضيقة.

غير ذلك، سنبقى ندّعي اليسارية لكن ممارساتنا رجعية يمينية محافظة، فدعم محمود عباس هو يمينية، ودعم الثورة المضادة بدعوى محاربة الإسلاميين هو يمينية، السكوت على الفساد هو يمينية، المحاصصة الحزبية الطائفية والمناطقية هي يمينية، السكوت عن الممارسات المجتمعية القمعية هو يمينية، التحالف مع العائلية هو يمينية، النجومية والشعبوية والوصولية يمينية. أين الممارسات اليسارية؟

إذًا، أزمة صعود اليمين هي أزمة أخلاقية عالمية لم تتجاوزنا، ومواجهتها يكون بغير أدواتها. إذا كانت بوصلة اليمين الحفاظ على الوضع القائم والاستقرار و"فن الممكن"، فإن بوصلة اليسار أخلاقية مطلقة لا تتأثر بموازين القوى وترفض الاستقرار، لأن هدفه ليس الوصولية السياسية أو تقديس الهياكل، بل القيم التي يحملها وفي مركزها الإنسان، وفي حالتنا الإنسان العربي والفلسطيني.

محاربة النجومية والشعبوية والوصولية والرداءة السياسية، وهي رديف لصعود اليمين، تكون بالتمسك بالبوصلة الأخلاقية وليس بالانجرار إلى ساحات تلك الظواهر. وهذه مهمة اليسار الذي نحتاجه.

عن القدس الفلسطينية