باسم برهوم - النجاح الإخباري - عندما يقرأ المرء شعر محمود درويش للمرة الاولى، يشعر بالنشوة، ويشعر أنه أخذ منه ما يشبع حاجاته الحسية والمعنوية. وبالنسبة للفلسطيني تحديداً فإنه يرى في شعر درويش مأساته، وفي الوقت نفسه الحلم والأمل ويعيش ملحمة صراعه والتعبير الأصيل عن هويته الوطنية. وعندما يقرأه المرء للمرة الثانية يكتشف فيه أبعاداً أخرى أعمق، وهكذا الأمر بعد كل قراءة. فشعر درويش لا يستنفد بكثرة قراءته بل العكس يحصل.
من هنا تبدو أن مسألة تناول محمود درويش وشعره هي مهمة صعبة وشاقة لما فيه من قوة شعرية وعمق في المعنى. هذه الصعوبة يمكن تذليلها فقط عندما يتم تفكيك المكونات الثقافية والمعرفية والسياسية والإنسانية لدرويش، وهي مكونات شعره بالأساس، فمثلا، لو لم يكن درويش مطلعاً بما يكفي على الرواية الصهيونية وكيفية تلفيقها، ولو لم يكن درويش مطلعاً بالقدر الكافي على الثقافة الاسرائيلية، لما كان بهذه القدرة الإبداعية في التعبير العميق والواعي للهوية الوطنية والهوية الثقافية للشعب الفلسطيني. كما انه لو لم يكن عارفاً بالتاريخ وبالأديان والفلسفة، لما كان قادراً على إعطاء هذه الهوية بعدها الإنساني وتعدديتها المبهرة وبما فيها من تسامح وقبول للآخر، وأخيراً لو لم يكن درويش الابن المباشر لنكبة فلسطين عام 1948، والتي انضجت وعيه مبكراً، لما أخذ شعره هذا الطابع التراجيدي الملحمي الذي طعمه بالأساطير الإغريقية والسومرية القديمة.
درويش كان فلسطينياً، ولكن ليس بالمعنى البسيط السائد، كان فلسطينياً بكل ما تعنيه فلسطين من تاريخ وتعدد حضاري وثقافي وديني. فهو وشعره امتداد وتعبير لهذه الفلسطين، فهي المكان التي تعتقد شعوب كثيرة ان لها جذورا وصلة وثيقة بها.
ودرويش المتعلق والمتجذر بفلسطينيته، بدأ شبابه ماركسيا وعضوا في حزب ركاح الشيوعي رفيقاً لإميل حبيبي، وإميل توما، وتوفيق زياد وسميح القاسم وغيرهم ممن حافظوا وحموا الهوية الفلسطينية داخل اراضي فلسطين عام 1948، ولكونه ماركسياً كان منحازاً للمظلومين والكادحين، منحازاً للعدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين أبناء البشر، لذلك كان نقيضاً لكل أشكال الاستغلال والظلم والعنصرية والتطرف الأعمى.
خروجه من فلسطين وهو في البدايات سمح له بالاطلاع على الثقافات العربية، وتجارب المثقفين العرب، وعبر تنقله بين عدة دول، ألم درويش جيداً بالثقافات العالمية، واقترب كثيراً من كتاب أميركا اللاتينية. وبالرغم من انه ماركسياً، وكما قال هو إنه قد تأثر بشعر لوركا، فإنه ايضاً اطلع عن قرب في فرنسا وأوروبا على وجودية هيدغر وسارتر، بما يتعلق بمسؤولية الفرد عن قراراته واختياراته وأفعاله.
من كل هذه التعددية الثقافية والفكرية، وطنيته الفلسطينية، التي كان مسكوناً بها، أخذ شعر درويش شكله ومضمونه، وأخذ هذا العمق الذي يشبه بئر ماء لا ينضب.
لقد ادرك درويش الطابع الملحمي للصراع الذي يخوضه الفلسطيني في مواجهة الصهيونية وداعميها. فجاء شعره ليشبه بطبيعته طبيعة الصراع، الذي لا يمكن فهمه إلا عبر المعرفة العميقة، فهو صراع وجودي تراجيدي تماماً كما الملاحم والأساطير، لذلك لم يكن صدفة أن الأساطير شكلت مادة أساسية في شعر درويش. وبالمحصلة فإن درويش وشعره هو نتاج لهذا الواقع ونتاج تجربته الشخصية مع النكبة ولاحقاً مع العنصرية ومن ثم مع الثورة وهذه المواجهة الصعبة والمريرة المستمرة مع الرواية الصهيونية ومشروعها الذي ينفي ويلغي وجود الشعب الفلسطيني.
هذا الشاعر الفيلسوف شمولي المعرفة، المتمدد، يقول:
أطلُ كشرفة بيت على ما أريد
أطلُ على الريح
تبحث عن وطن الريح نفسها
أطلُ على المفردات التي انقرضت في لسان العرب
أطلُ على الفرس والروم والسومريين واللاجئين الجدد
درويش العارف بغلبة التاريخ على الآني البشري يقول: 
والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطالهم.. يلقي عليهم نظرة ويمر
وعن الفلسطيني العنيد، الذي لم يستسلم ولن يستسلم للقدر الصهيوني وداعميه يقول:
سأصير يوماً ما أريد.. سأصير يوماً طائراً
وأسلُ من عدمي وجودي.. كلما احترقت الجناحان
اقتربت من الحقيقة.. وانبثقت من الرماد
 انا حوار الحالمين.. عزفت عن جسدي وعن نفسي 
اكمل رحلتي إلى المعنى.
حول الالتباس الذي يعيشه الفلسطيني بسبب طول الصراع وتعقيده، وأحياناً صعوبة مهمته النضالية، يقول درويش:
انا من هناك
انا من هنا
ولست هناك ولست هنا 
لي اسمان يلتقيان ويفترقان 
ولي لغتان نسيت بأيهما احلم
وبإبداع ملفت يلخص محمود درويش فهمه للراوية والصهيونية ومشروعها الاحتلالي.. وبإيجاز رائع يقول:
ايها العابرون بين الكلمات العابرة
احملوا اسمائكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
وخذو ما شئتم من زرقة البحر ومن رمل الذاكرة 
وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا انكم لن تعرفوا
وحول الهوية، فالشعب الفلسطيني هو صانع ومبدع هويته الوطنية عبر الصراع مع الصهيونية، وانتماء الفرد لها انتماء واعياً هو ابداع شخصي.. ويقول درويش: 
والهوية قلت 
فقال دفاعاً عن الذات 
ان الهوية بنت الولادة
لكنها في النهاية ابداع صاحبها
وراثة ماضي 
انا المتعدد في داخلي
خارجي المتجدد
لكني انتمي لسؤال الضحية
ويلخص المشروع الصهيوني، وإقامة اسرائيل على أنقاض فلسطين وشعبها، ويقول:
بلد يولد من قبر بلد
اللصوص يعبدون الله كي يعبدهم
ملوك للأبد وعبيد للأبد
وبالمقابل يلخص ما حل باللاجئين الفلسطينيين، وبالشعب الفلسطيني الذي فقد وطنه، يقول:
كأن يديك المكان الوحيد.. كأن يديك بلد
اه من وطن في جسد
ويبلغ درويش ذروته الفلسفية عمقه في قصيدة ادوارد سعيد رفيقه بالهوية والمعرفة، وفيها يقول:
اذا كان ماضيك تجربة 
فاجعل الغد معنى ورؤيا
لا غدا بالأمس.. فلنتقدم اذاً
عبقرية محمود درويش، الذي قال ليس هناك نص محملاً على تاريخ وجغرافيا، عبقريته انه حول ابياته الشعرية الى بيوت للفلسطينيين، بيوت للاجئين الباحثين عن وطنهم وديارهم، وهنا نقتبس:
سلم على بيتنا يا غريب
فناجين القهوه لا تزال على حالها
هل تشم رائحة اصابعنا فوقها
وفي الحب تفوق درويش على ابداع الحلاج في حبه للذات الالهية، إلا ان الحب من وجهة نظره هو من الانسان للإنسان، من الانسان للطبيعة والاهم حبه لفلسطين والذي اخذ بعداً صوفياً:
ادرب قلبي على الحب كي يسع الورد والشوك
ويقول لا اتذكر قلبي الا اذا شقه الحب نصفين أو جف من الحب
وايضاً:
يطير الحمام 
يحط الحمام 
اعدي لي الارض كي استريح
فإني احبك حتى التعب
واخيراً تبرز ذروة درويش الفلسفية مع قصيدة وديوان اثر الفراشة، وربما كان درويش يقصد النضال الوطني الفلسطيني، فمهما بلغ الظلم، ومهما بلغت المصاعب والعقبات امام حرية الشعب الفلسطيني واستقلاله فإنه مثل اثر الفراشة الذي لا يرى لكنه لا يزول، يحاول ان يصنع املاً من المستحيل هذه القصيدة تحديداً كتبها استناداً الى فكرة فلسفية رياضية فيزيائية لها علاقة بالجاذبية غير المرئية، وهنا يقول:
أثر الفراشة لا يرى
اثر الفراشة لا يزول
هو جاذبية غامض
يستدرج المعنى ويرحل
حين يتضح السبيل
بعد عدة قراءات لشعر محمود دريش، من الصعب ان نقرر ايهما يتغلب على الآخر، الشاعر ام الفيلسوف، وهو بالنسبة لي الفيلسوف الشاعر، لأن شعره، وبالرغم ما فيه من روعة الشعر واتقانه للعروض وأوزانها الا انه مع ذلك يمثل فلسفة متكاملة، أساسها فكرة الحرية والتحرر عبر هذا الصراع الملحمي، وعبر المعرفة.

عن الحياة الجديدة