عبدالوهاب بدرخان - النجاح الإخباري - هذا العنوان هو عبارة ذهبية أطلقها السيد عمرو موسى خلال مشاركته في المغرب في ندوة «مأزق الوضع العربي الراهن: الممكنات والآفاق» (11 تموز/ يوليو الحالي)، وهي إحدى فاعليات موسم أصيلة الثقافي الدولي في دورته الـ40. كان موسى أميناً عاماً للجامعة العربية حين عقدت القمة العربية في بيروت عام 2002 وأقرّت تلك المبادرة التي طرحتها المملكة العربية السعودية، وعُرفت لاحقاً وصار يُشار إليها باعتبارها «مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز». وبمعزل عن السلبية العنفية من جانب إسرئيل والسلبية الديبلوماسية من جانب الولايات المتحدة في تعاملهما مع هذه المبادرة، فإن العالم رحّب بها كمشروع عربي هو الأول من نوعه للسلام في الشرق الأوسط، ليس فقط لأنه شامل ومتوازن، إذ يقوم على مبدأ «الانسحاب الإسرئيلي الكامل من الأرض المحتلة عام 1967 مقابل التطبيع العربي الكامل مع إسرئيل»، بل أيضاً لأنه شكّل نقلة نوعية في الموقف العربي وحظي بالتزام الدول العربية كافةً.


ويشرح عمرو موسى أن أي تسوية للقضية الفلسطينية التي لا تزال «مركزية» لكل البلدان العربية، ينبغي أن تُبنى على قاعدة «رابح - رابح» لطرفيها، وفي المبادرة العربية ما يضمن حقوق الشعب الفلسطيني بما فيها حقّه في إقامة دولة قابلة للحياة داخل حدود الـ67 وتكون القدس الشرقية عاصمتها. وبالتوازي، فإن السلام والاستقرار في إطار «التطبيع العربي» هما اللذان يضمنان «أمن إسرئيل» وإنهاء الصراع معها. ويشرح موسى أيضاً أن اقتراحات أميركية وإسرئيلية كثيرة، معلنة وغير معلنة، دُرست على مرّ الأعوام كانت تأخذ المبادرة العربية في الاعتبار، خصوصاً أن القمم العربية واظبت على التزامها، وقد نصّت قرارات القمة الأخيرة، «قمة القدس»، في الظهران (نيسان/ أبريل 2018) على أن «السلام الشامل والدائم خيار استراتيجي تجسّده مبادرة السلام العربية». ويفترض ذلك ألا يكون هناك تخلٍّ عربي عن هذه المبادرة، مضموناً وروحاً وأهدافاً، أياً تكن الظروف. فحتى لو لم تعد القضية الفلسطينية بمجرياتها وتقلّباتها «مركزيةً» للعرب كافة، وقد تكاثرت عليهم القضايا المركزية من سورية إلى العراق واليمن وليبيا، إلا أن حلّها سياسياً وقانونياً وحقوقياً وإنسانياً يبقى بالغ المركزية والحيوية للقضايا الأخرى المختلفة.

من هنا، التناقض العميق بين المبادرة العربية بصفتها «صفقة القرن» السياسية ومــــبادرة ترامـــب - نتانياهو بصفتها «صفقة القرن» العقارية. الأولى تدعو إلى التعامل بأحكام القانون الدولي وحقوق الإنسان مع الطرف الذي ظُلم طويلاً وتلتزم التراضي السياسي عبر التفاوض الذي يضمن لكل طرفٍ حقوقه، فيكون سلام حقيقي. والثانية تحتكم إلى الاحتلال والجشع المسلّحين بالقوة وإرهاب الدولة والبلــطجة لـ «شرعنة» سرقة الأرض واستيطانها وتقطيع «العقارات» وتوزيعها على العصابات التي اســتولت عليها، ثم تقديم «التراضي العقاري» - المفروض فرضاً - على أنه «مشروع سلام»، لكنه سيكون، واقعياً، مشروع نزاعات مفتوحة بلا نهاية... لا بدّ أن هذا النوع من «اللاتسوية» يقلق السوريين والعراقيين والليبيين وسواهم المهمومين بقضاياهم، والمتطلّعين إلى حلول سياسية لها، لأنه ينتزع من أي نزاع بعده التاريخي والإنساني والقانوني والسيادي لتغليب إرادة القوي المدجّج بأكثر الأسلحة فتكاً.

تبدو «صفقة» ترامب - نتانياهو مستنبطة من نماذج الإخضاع القسري للهنود الحمر ولسكان مناطق في أفريقيا وأميركا اللاتينية قاومت مشروعات ضخمة لبعض الشركات الأميركية، وكلّها نماذج مستوحاة من التراث الأسود لأكثر أنماط الاستعمار وحشيةً أو من جرائم سجّلها التاريخ باسم أسوأ الديكتاتوريين وأعتاهم. ذاك أن هذه «الصفقة» وضعت في حسابها دوام الاستبداد الدولي من خلال الحماية والحصانة الأميركيّتين ودوام القمع الوحشي الإسرئيلي للفلسطينيين، ليس بذريعة تهديدهم «أمن إسرئيل» هذه المرّة، بل لأنهم لم يوافقوا على «الصفقة». وكما استكان الهنود الحمر في معازلهم وسكان تلك الدول في المناطق التي نُقلوا إليها، ولم يُمنحوا سوى الحقّ في البقاء، كما لم يكن أمامهم خيارات أخرى، فإن أصحاب «صفقة القرن» يتوقّعون أن يرضخ الفلسطينيون في النهاية طالما أن أميركا تستخدم قوّتها الطاغية لقتل رموزهم بدءاً من القدس، وإقصاء «حق تقرير المصير» من طموحاتهم، وإلغاء تاريخهم (ومستقبلهم أيضاً)، وتبديد تضامن أشقائهم العرب معهم، ومحاصرة خياراتهم، والتهديد بتغيير قادتهم، والحدّ من مواردهم، وتجريد قضيتهم من أي شرعية دولية أو مضمون حقوقي وسيادي...

بعد تأجيل متكرّر وتعديلات متواصلة، لم يعد هناك موعد، بل لم يعد متوقّعاً الإعلان عن «صفقة القرن»، فكيفما كانت صيغتها فستكون مجرّد مخطط يحاك في الظلام، فأصحابها يعرفون أنها غير مشروعة وغير قانونية وغير متوازنة، لذلك فإنهم بدأوا تطبيقها ولن يعلنوها. لن يطرحوها للنقاش لأنهم مدركون أن العالم، وليس الفلسطينيون وحدهم، لن يقبلها ما دامت ترمي إلى تكريس عملية احتيال على القانون الدولي. لكنهم باشروا عملياً فرض «الصفقة» ويضعون المجتمع الدولي أمام الأمر الواقع، فأميركا المحتكرة حلّ النزاع قرّرت أن تتصرّف على الطريقة الترامبية الهوجاء، مستندة وفق ما يقال إلى موافقة إسرئيلية و «بعض - عربية». في مرحلة سابقة، كان جاريد كوشنر، صهر ترامب، يتخوّف من اعتراضات إسرئيل وشروطها، ثم اهتدى إلى الحلّ بتلبية مطالب نتانياهو كلّها بلا استثناء، تحديداً في ما يتعلّق بـ «الحدود» والسيادة على كلّ القدس وتقطيع الضفة الغربية و «الكيان (الفلسطيني) الأقلّ من دولة». لكن كوشنير (وعمّه) لم يهتديا بعد، على رغم «التعديلات»، إلى حلّ للاعتراضات العربية الصديقة، فالعرب هم الذين سيتلقّون تداعيات «الصفقة»، وإذا كانوا يسهّلونها تحت وطأة «الضرورات» والمصالح فهذا لا يعني أنهم غير مدركين إجحافاتها.

واقع الأمر أن «صفقة ترامب - نتانياهو» ليست على حساب الفلسطينيين فحسب، بل إنها «صفقة»/ صفعة ضد العرب بما يعنون لأنفسهم وللعالم، حاضراً ومستقبلاً.

فالفلسطينيون يُعاقَبون الآن لسبب بدهي وحيد: لأنهم لا يزالون موجودين ويطالبون بحريّتهم ويريدون تحقيق حلمهم، ولأنهم «لم يفهموا» منذ مؤتمر مدريد وبعد اتفاق أوسلو أن أي سلام يأملون به سيبقى محكوماً بالإرادة الأميركية - الإسرئيلية وبالتفاهمات المفصّلة غير المعلنة بين الحليفَين لمؤدّى المفاوضات وحدود «السلام» وصيَغ الاتفاقات مع الفلسطينيين. وإذ اعتمد الأميركيون والإسرئيليون الغموض والمراوغة لإبقاء الأرض غنيمة متحركة تستغلّها إسرئيل لمصلحة الاستيطان، سواء كانت هناك مفاوضات أم لم تكن، فقد أتاح الانقسام الفلسطيني لهم اللعب على التناقضات وتوظيف الصراع على السلطة لاعتبار أن القضية الفلسطينية قد انعطبت بأيدي أصحابها، ثم جاءت تداعيات «الربيع العربي» وحروبه لتبعد القضية من الواجهة وتتيح لإسرئيل القول أن فلسطين لم تعد «مشكلة» في ضوء الوحشيات التي أظهرها التقاتل بين العرب أنفسهم. كلّ ذلك أضعف الفلسطينيين بل أضعف حتى منطق التسوية السياسية في المبادرات الخجول التي حاولتها إدارة باراك أوباما، ليظهر أخيراً منطق «الصفقة العقارية».

كانت فلسطين العنوان الوحيد الذي يجمع العرب، وكانت هناك اعتراضات شديدة على المبادرة العربية للسلام عندما أقرّت في قمة بيروت، ومع الوقت تبيّن أنها مبادرة شجاعة وواقعية، تهجس بالمستقبل وتريد تأسيس استقرار إقليمي قائم على صلح براغماتي منصف لطرفَي الصراع. كانت هذه المبادرة التي قدّمها العرب في 2002، قبل عام على غزو العراق واحتلاله، صيغة حضارية للتعايش بين مجتمعات الشرق الأوسط وأديانه بل مشروع الفرصة الأخيرة لاستباق انهيار المنطقة واستشراء الإرهاب واستفحاله، وكذلك لاستباق تغوّل إيران ومشروعها المذهبي وتدخّلاتها التخريبية. لعل ما يحدث الآن، من «صفقة القرن» باستقطاب غزّة إلى شراء «شرعية» لاحتلال الجولان باستبقاء بشار الأسد ونظامه، يفسّر سبب رفض إسرئيل تلك المبادرة، مع أنها ترغب في الحصول على ما انتقته منها، أي «التطبيع». لكن، ما الذي يخسره العرب من عدم الإصرار على مبادرتهم وجعلها أساساً لأي سلام إقليمي؟ لا شك في أن الانسياق بـ «الصفقة» لا يشكّل فقط تخلّياً عن الفلسطينيين وعدم اكتراث لمصيرهم، بل يشي بعدم جدّية في التعامل مع السلام ومقتضياته على جميع المستويات. لذا، يقدّم الإيرانيون والأتراك أنفسهم كضامنين للسلام الاقليمي.

* كاتب وصحافي لبناني

عن الحياة اللندنية