الدكتور عبد المنعم سعيد - النجاح الإخباري - هذه محاولة للبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة. القطة السوداء هي ما بات معروفا بصفقة القرن، أو الصفقة «المثالية»، التي تزمع الولايات المتحدة إطلاقها لتحقيق السلام في الشرق الأوسط بين العرب والإسرائيليين. أما الغرفة المظلمة فهي تفاعلات وعلاقات وشبكات ونظم منطقة الشرق الأوسط بعد «الربيع العربي» وسلسلة الحروب الأهلية وصعود وسقوط دولة الخلافة ومحاولات الإصلاح الاقتصادية والاجتماعية في أكثر من دولة عربية.

القطة جاءت في شكل إشارات وعناوين أطلقها دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية، وبعد عام ونصف عام في الحكم فإنه لا يزال يطلقها، ومعها أرسل بعثات للبحث عن السلام مكونة من جاريد كوشنر زوج ابنته، ومعه دبلوماسي سابق هو جيسون غرينبلات، وبالطبع محامي الرئيس الأمريكي ديفيد فريدمان الذي بات سفيرا لأمريكا في إسرائيل.

الثلاثة باتوا رأس الحربة في تحقيق أمر ما له علاقة بالسلام العربي الإسرائيلي. وإذا كان الرئيس الأمريكي قد وضع أساسا للسلام في شبه الجزيرة الكورية بعد لقائه مع الرئيس «أون» في جزيرة «سنتوزا» في سنغافورة، ويحضر لأسس السلام العالمي في لقاء مع فلاديمير بوتين في هلسنكي يوم 16 حزيران الحالي، فإن طرح مشروع للسلام في الشرق الأوسط يكمل دائرة السلام في الدنيا كلها.

وفي غرفة الشرق الأوسط المظلمة فإنه لا يوجد إلا نوعان من رد الفعل العربي، أولهما فيه كم هائل من الارتعاد يصاحب دوما كل التحركات الدبلوماسية نحو السلام في المنطقة على أساس أن مشروعات السلام ما هي إلا محاولة أخرى لتصفية القضية الفلسطينية. حدث ذلك منذ مبادرة روجرز عام 1969 والتي عندما قبلها عبد الناصر كان الاتهام له بتصفية القضية الفلسطينية. وجرى ذلك مع كل محاولات السلام بدءا من تلك المصرية وحتى الفلسطينية والأردنية خلال العقود التالية.

وثانيهما استدعاء اقتراح مركز بحوث إسرائيلي في الثمانينيات من القرن الماضي بمد قطاع غزة داخل سيناء حتى حدود العريش على أن تقدم إسرائيل ما يقابله في صحراء النقب لكي يكون شكل القطة التي يبحث عنها الجميع. كل القوى الراديكالية العربية على اليمين واليسار تفضل الأوضاع الراهنة من انقسام فلسطيني بين الضفة والقطاع، وزواج شعبي فلسطيني إسرائيلي في العمل والعملة والتجارة والأمن والصحة، وحروب دورية في غزة تنتهي دوما بتدخل الأمم المتحدة والدول الكبرى وعقد مؤتمر لإعمار غزة مرة أخرى. الإخوان المسلمون في محطاتهم التليفزيونية، ومواقعهم الإلكترونية، وصفحاتهم الفيسبوكية، يعصرون أعصابهم، وينزفون دموعهم على ضياع أجزاء من سيناء لم تقبل مصر الحديث عنها قبل ثلاثة عقود، ولا يوجد إسرائيلي يجرؤ على طرحها اليوم. والحقيقة أنه لا توجد إشارة واحدة في الخطب والأحاديث الصحفية والمقابلات الدبلوماسية التي أجراها الوفد الأمريكي في المنطقة أخيرا وقبل ذلك، لها علاقة بالأراضي المصرية التي انتهت قصتها بعد معاهدة السلام وتحكيم طابا الذي جعل الحدود المصرية الإسرائيلية نهائية.

القطة إذن ليس لها علاقة بالحكاية الزائفة للوطن البديل، ما يمكن رصده هو أن الإطار الكلي للصراعات في الشرق الأوسط قد تغير، وفي الجوهر أن الصراع العربي الإسرائيلي بات أقل فى الأهمية بكثير من صراعات إقليمية وأهلية وعقائدية سقط فيها مئات الألوف من العرب بأياد غير إسرائيلية، ودمرت فيها عشرات المدن بيد مسلمين وليس اليهود. تغيرت خريطة الصراعات والأحقاد التاريخية باختصار، وتغيرت أحجامها، وباتت الأولويات كما التحالفات مختلفة.

وفي حديث جاريد كوتشنر إلى صحيفة «ے» الفلسطينية فإنه ذكر متحدثاً للفلسطينيين أنه بينما كان العالم يتقدم كنتم «باقين في الخلف»، ونصحهم بألا يجعلوا صراعات الأجداد تحدد «مستقبل الأبناء»، والاختيار الفلسطيني هو ما بين الواقع التعس والخاسر الحالي أو يكونون جزءا من العصر الصناعي القادم، و«وادي سليكون الشرق الأوسط».

«الصفقة» التي تريد أمريكا عرضها على الفلسطينيين تقوم على تغيير الواقع الاقتصادي والمعيشي والأمني حيث تزيد فرص العمل والاستثمار.

قال زوج إيفانكا في الحديث «سوف نطلق الخطة وسوف يجد الفلسطينيون فيها ما يحبونه لأنها سوف تقود إلى فرص لهم في حياة أفضل». كيف يحدث ذلك؟ بعث مشروعات قديمة مثل المطار والميناء في غزة، وزيادة عدد العاملين في إسرائيل (أعطت إسرائيل 7500 تصريح عمل أخيرا للفلسطينيين من الضفة الغربية بالإضافة إلى ما يترواح بين 100 و150 ألفا في الوقت الحالي وهناك طابور طويل من الراغبين في العمل)، وفتح الباب لاستثمارات ضخمة في الضفة الغربية، أما عن غزة فما ورد عنها من تسريبات بالإضافة إلى مشروعات البنية الأساسية فإن محطات للطاقة وتحلية المياه سوف تكون في مصر وهي التي تمد القطاع بالكهرباء والماء.

ليس معنى ذلك أن حل الدولتين سوف ينتهي وإنما حالة الحرب والعداء هي التي سوف تصل إلى نهاية، وسوف يكون الطريق إليها هو إقامة دولة فلسطينية وفق الحدود الحالية في الضفة والقطاع وفي المنطقتين «A وB» وأجزاء منتقاة من المنطقة «C»، وما غير ذلك سوف يكون موضوعا لتفاوض طويل الأجل بين الدولتين، مع العلم بأنه في فترة التفاوض هذه سوف تكون المسئولية الأمنية بين نهر الأردن والبحر المتوسط في يد إسرائيل، أما في القدس فإن السيطرة في الأماكن الإسلامية المقدسة سوف تكون موزعة بين الأردن والفلسطينيين.

أما اللاجئون الفلسطينيون فيجري توطينهم حيث يقيمون. كل ذلك هو ما يخص الفلسطينيين في القصة، ولكن القطة الأمريكية لها أبعاد أكثر من ذلك لأنها سوف تخص الإقليم كله الذي عليه أن يطبع الحالة الإسرائيلية في إطار من الأمن الإقليمي الذي يحقق الاستقرار ويواجه الإرهاب والتطرف والتوسعات الإيرانية والقوى المحلية الموالية لها.

السؤال الآن هو هل مثل هذه الصفقة يمكن القبول بها، أم أنها سوف تكون نقطة انطلاق لتطبيق مبادرة السلام العربية، أم أنها مرفوضة في الشكل والجوهر ومن ثم استمرار الأمر الواقع على ما هو عليه؟

كلها أسئلة تحتاج إجابات تأتي من التفكير الرشيد والهاديء في أمور كل خياراتها مرة ؟!.

... عن "الأهرام" المصرية