النجاح الإخباري - المصدر: الحياة اللندنية

في اللحظة الإعلامية التي نعيشها ليس أفضل من أن تقوم فكرة برنامج تلفزيوني كله على أسئلة الناس على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى أسئلة مصدرها الشارع توجه من دون أي «فلترة» أو «تحرير» إلى الضيوف على اختلاف مجالات عملهم، حتى لو كان ذلك وعداً يقطعه المقدم لجمهوره ويفترض أنه يتعذر الوفاء به، وهو ما يجعل من البرنامج، ولو نظرياً، حاملاً لمقومات النجاح والمتابعة.

سيبدو ذلك كما لو أن الإعلام يخلص لدوره الحقيقي، أو هكذا نتوقع.

هذه الفكرة المغرية تحققت في برنامج الإعلامي الكوميدي محمود رزق «بعد الظهر» (الموسم الثاني) الذي يبث على فضائية «النجاح»، إذ قدم رزق حتى اللحظة 13 حلقة (نصف ساعة تلفزيونية)، تفاعلية عبر الإعلان على صفحته على «فايسبوك» أنه سيجري حواراً مع شخصية يحددها ويطلب من المتابعين والنشطاء توجيه الأسئلة والمداخلات، وفعلاً وصله في بعض الحلقات أكثر من ألف سؤال تفاوتت بين الخاص والعام، بين الخفة المطلقة وبين الجرأة الشديدة، والمحدد هنا هو الشخصية التي يحاورها وطبيعة عملها ومقدار الجدل الذي يرتبط بها.

ومن وجهة نظرنا هذا برنامج يغري كل الأطراف بدءاً بالمقدم، ومروراً بالقناة التلفزيونية وصولاً إلى الضيف ذاته (سيبدو شجاعاً وواثقاً من نفسه) والجمهور الذي سيشعر أن صوته مسموع وأسئلته مطروحة. والأخير هنا وهو للجمهور الموضوع كله، سيشعر أنها لحظة يرى فيها ويسمع بعض من إجابات المسؤولين الفلسطينيين على اختلاف تخصصاتهم، وتحديداً في ظل تسيد قناعة أو مسلمة لديه مفادها: أن المسؤولين لا يسمعون... وإن سمعوا لا يجيبون.

سيدقق المتابع للبرنامج على الجزئية الأخيرة أمام المسلمة السابقة حيث الضيف يسمع، ويجيب، ولكن كيف هي الإجابات على الأسئلة الأكثر إحراجاً واتهاماً وغضباً؟! سيبدو أن هذا هو السؤال المركزي الذي يثيره البرنامج ويضعنا في خانة التفكير فيه، فهل المهم أن نطرح السؤال على الضيف؟ وماذا نفعل بعد أن يجيب على السؤال بطريقته الخاصة؟ هل ننطلق لسؤال آخر؟ هل نسلم بجوابه وبطريقة تعامله مع أسئلة الناس؟ هذا أمر يحتاج لنقاش جدي في ظل مكر المسؤولين وقدرتهم على التهرب من الأسئلة بطرق مختلفة، ما يجعل من السؤال حالة من «تطهير ذاته» بدلاً من توجيه الاتهام في ثوب الجرأة والشجاعة.

وما يكشفه البرنامج أنه وإن كانت أسئلة الناس على شبكات التواصل الاجتماعية توصف بالشعبوية فإن ردود المسؤولين عليها لا تقل شعبوية عن ذلك، فإلى جانب نكران بعضها وافتراض جهل السائل، والتعالي عليها أو التهرب منها... الخ، هناك ميل للعموميات في طرح قضايا محددة، وإستغباء المشاهدين بإجابات ممجوجة تتلوها ابتسامة ساخرة.

وهو ما يجعل البرنامج حتى لو لم يقم بحشر ضيوفه في زاوية الحقائق والأرقام والمعطيات الدقيقة، فإنه يقدمهم متبرمين مشككين مترفعين عن كثير من الأسئلة المستحقة.

لقد استضاف البرنامج مجموعة من الشخصيات الإشكالية مثل: الناطق باسم الأجهزة الأمنية الفلسطينية عدنان الضميري، محافظ محافظة مدينة نابلس أكرم الرجوب، النائب العام أحمد البراق، رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري، الفنان الفلسطيني محمد عساف، إلى جانب وزراء ومسؤولين من القطاع العام والخاص.

الحوار مع هؤلاء كان خليطاً بين الخفة والجدة، فتجد هناك أسئلة لمليونير فلسطيني من طراز: «شو بيمنعك تروح على إسطنبول تزرع شعر؟»، وأخرى لمسؤول: «لماذا تسلم السلطة المقاومين إلى إسرائيل؟»، وهو ما يجعله برنامجاً على مقاس الناس على شبكات التواصل الاجتماعية، يدمج بين العام والخاص بطريقة تكسر إيقاع البرنامج وتبرد بعض محاوره، وتحديداً عند التعاطي مع العناوين الكبيرة.

يعوض عن ذلك أن المقدم رزق يطبع البرنامج بروحه وشخصيته خفيفة الظل، ربما ذلك ما جعل الضيوف يتحملون بعض الأسئلة المحرجة والإيقاعية السريعة. ومع ذلك بدا أن تبرماً واضحاً في رد الضيوف وتحديداً المسؤولين الرسميين الذين لم يعتادوا الرد على أسئلة محرجة تتهمهم صراحة بالتقصير.

«بعد الظهر» هو أول برنامج تلفزيوني فلسطيني يحمل هذا التوجه بهذا المقدار من السخاء بالاعتماد على أسئلة الناس وفضفضاتهم على شبكات التواصل الاجتماعية، وهذه نقطة أولى تحسب له، وإن طالبناه أن يكون أكثر عمقاً وفحصاً وتحققاً للاسئلة التي يطرحها سنكون كمن يحمله ما لا يدعيه.

ومع ذلك لزم البرنامج القليل من البحث في أسئلة الناس والوقوف على خلفياتها، وهو أمر لو تحقق لجعل من البرنامج أكثر سخونة «وشفاء للغليل» وتحقيقاً لحاجة الشاشات الفلسطينية عندما تتعامل مع المسؤولين وصناع القرار.

ابتسامة رزق بعد الأسئلة الصعبة كسرت حدة الدردشة مع الضيف، لكن الأهم هو أن لا تتحول هذه الابتسامة إلى سخرية وضحك من سؤال الشارع ذاته، فالناس هم نقطة قوة أي برنامج، وأسئلتهم يجب أن توضع في المكانة المستحقة.

في إحدى تعريفات الصحافي الجيد نعرف أنه «ذلك الذي يطرح أسئلة الناس»، ورزق فعل ذلك، كسر رهبة طرح الأسئلة على المسؤولين في تقليد نادر الوجود على الشاشات الفلسطينية، وهذا جيد حتى لو لم يكن قائماً على مبدأ المساءلة والتحقق.

على الأقل سيعرف المسؤول ما يدور في ذهن الجمهور، فالمجد للسؤال، ولكن أي سؤال؟ تلك هي القضية.