الدكتورة نوال السعداوي - النجاح الإخباري - كانت أسئلة كثيرة تدور في رأسي منذ الطفولة منها: كيف تطير الطائرة في الهواء ولا تسقط الى الأرض؟ وفي منتصف القرن الماضي، وأنا أقوم بتشريح مخ الإنسان بكلية الطب، دارت في رأسي أسئلة مثل: ما علاقة المخ بالعقل؟ وهل تكون الأفكار خارج الرأس في الفضاء؟

ثبت أن الفضاء ليس فراغا، وأن الهواء جزيئات مادية من غاز الهيدروجين والأوكسيجين التحمت بنسبة معينة، وإن تغيرت هذه النسبة بسبب البرودة يتحول الهواء الى ماء أو ثلج، تتحول الكائنات المادية واللامادية حسب الظروف البيئية، تزول الفواصل بينها فتلتحم أو تنفصل، أثبتت العلوم الحديثة، كالالكترونيات، والبيوكيماويات، والكيموبيولوجيات، والنانو تكنولوجي، أن الفضاء مملوء بالمواد الدقيقة جدا لا تراها عين الإنسان، الذي تطور عقله وبصره وحواسه ومشاعره، عبر أربعة ملايين سنة، وقد اخترع الإنسان أجهزة التلسكوب والميكروسكوب، فتفوقت على العين البشرية في الرؤية واكتشفت الكون، كما تفوق الكمبيوتر، على بعض عمليات المخ البشري، في مجالات الحساب والجبر والهندسة والطب.

في الطب، مثلا، منذ أربعة أعوام، بجامعة ييل بالولايات المتحدة، نجح الكمبيوتر (الآي فون) في تشغيل الوظائف الحيوية داخل البنكرياس الصناعي، وفي السويد منذ ثلاثة أعوام أصبح ممكنا للطبيب أن يجري عملية جراحية لمريض دون أن يغادر عيادته أو يمسك المشرط في يده، كل ما يحتاجه الطبيب هي وصلة الإنترنت السريعة لتوصيل مخه مباشرة بالمشرط في اليد البيونيك، وهي يد صناعية ذكية تفوق يد الطبيب العضوية في الذكاء والدقة، وأصبح ممكنا أن يحرك المشلولون أطرافهم عبر أجهزة بيونيك، أو دون الجهزة ، بقوة الفكر فقط ، عبر الكمبيوتر مباشرة، بارتداء خوذية كهربية على الرأس، تقرأ الأفكار في المخ، وتعطي الأوامر بالحركة ، وهكذا يمكن التحكم في الأدوات دون الإمساك بها، فقط نرتدي الخوذية الذكية التي تنقل الأفكار من المخ مباشرة الى الأدوات، دون تحريك إصبعنا.

وتمكن مئات العمال في السويد منذ عامين، من القيام بأعمال شاقة لا يقوم بها هرقل، بحركة بسيطة من اليد التي ثبت بها جهاز صغير بحجم حبة الأرز اسمه المايكرو تشيبس، وكل ما يحتاجه العامل هي الشفرة وكلمة السر لهذا الميكرو ـ كمبيوتر.

وهناك بحوث متعددة أكثر طموحا، تسعى للتعويض عن أجزاء المخ العضوي، المعرضة لأمراض النسيان والزهايمر، وتغيير البصمة الوراثية (الدي إن إيه) إن كانت ضارة الى (الدي إن إيه) المفيد، الذي يحمينا من الأمراض الجينية القاتلة، ويكسبنا مناعة قوية ضد عطب الجسد من اللحم، ويتنبأ العلماء الحالمون أن نوعا جديدا من فصيلة البشر سوف يظهر خلال القرن المقبل، إنسان أكثر تطورا، أرقى جسديا وعقليا، وأقل عدوانية وأنانية. الأحلام بالعدل والحرية والشعور بالحب والإحساس بالجمال تشغل عقل الإنسان والحيوان أيضا، فالحصان أو الحمار، عنده عقل يفكر ويدله على الطريق، ويشعر بالحب لمن يربت عليه بحنان، ويشعر بالكره لمن يضربه بالكرباج، تتكون المشاعر ، مثل الأفكار، في خلايا المخ من عمليات كهرو ـ مغناطيسية، بيو ـ كيميائية، لها قواعد حسابية منظمة تخدم حب البقاء والحياة ، والصحة والتقدم والإبداع ، وربما يدور في رأس الحمار أو الحصان السؤال: لماذا يركبني الإنسان ولا أركبه أنا ؟ كما يدور في رأس الأجير الفقير: لماذا يصفعني سيدي الثري ولا أصفعه أنا ؟ كما يدور في رأس المرأة لماذا يضربني زوجي تأديبا لي، ولا أضربه أنا تأديبا له؟ لم تكن عبقرية قدماء المصريين في تحنيط الموتى أو بناء الأهرامات فقط ، بل في قانون ماعت العادل الذي يساوي بين المرأة والرجل، وبين البشر والكائنات الأخرى، وكان لأبي الهول المقدس العظيم رأس إنسان وجسد حيوان.

الخيال والأحلام الطموحة، لا حدود لها في العقل العضوي المصنوع من اللحم، وكذلك في العقل اللاعضوي ، مثل ، الآي ـ فون الذكي ، أو النانو ـ بيو ـ رويوت ، ومن كان يتخيل أن عقل الإنسان يستطيع صنع آلات وأجهزة تفوقه ذكاء وقدرة على كسر قوانين الطبيعة وعمل المستحيل؟

ظلت البشرية أربعة بلايين سنة سجينة المملكة البيولوجية المقيدة بالعطب والتحلل، فهل ينطلق عقل الإنسان الجديد الى المملكة اللاعضوية اللامحدودة بالزمان والمكان، وبما هو مألوف للبشر منذ آلاف السنين؟

... عن «الاهرام» المصرية