حسن منيمنة - النجاح الإخباري - بذل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قصارى جهده لإقناع نظيره الأميركي دونالد ترامب بأن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني لن يحقق المبتغى بالتضييق على طهران وعزلها. ماكرون، ومعه كل من أنغيلا ميركل الألمانية وتيريزا ماي البريطانية، كان يدرك أن خطوة من هذا القبيل من شأنها أن تضع واشنطن في مواجهة العواصم الأوروبية، بعد أن وقّعت شركات كبرى عدّة من الدول الأوروبية عقوداً لمشاريع داخل إيران، وأن تعمّق العلاقات الإيرانية مع كل من روسيا والصين.

اعتبارات الرئيس ترامب السياسية والذاتية دفعته، بعد قدر من الترنح في الإعلام، إلى الانسحاب على كل حال. ولكن ترامب لم يقف عند حد التوتر الناتج من ذلك مع حلفائه الأوروبيين، بل عمد إلى رفع الاستثناء الذي كان قد أقرّه على رسوم استيراد الصلب والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي. أي أن ترامب وضع أوروبا بين خيارين، إما الحرب التجارية بما قد تؤدي إليه من فوضى وأذى ونتائج غير محسوبة، أو الرضوخ من دون رد للفعل الأميركي، ما يؤدي إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي المنهك لتوّه.

علاقة الجوار بين الولايات المتحدة وكندا تقترب من التكامل الفعلي، سياسياً، سكانياً، ثقافياً، اقتصادياً. فالكنديون لهم ما يبرر إبداء الاستغراب من أن تشملهم رسوم الاستيراد التي أقرّها ترامب تحت عنوان أن الواردات الكندية تشكل «خطراً على الأمن الوطني للولايات المتحدة». أما المكسيك، والتي تطاولها الرسوم كذلك، فهي سوق المنتجات الأولى للولايات المتحدة، فلا بد من السؤال عن الحكمة في الشروع بتعقيدات تجارية معها، على أبواب انتخابات رئاسية مكسيكية سلاح التعبئة الأول فيها إدانة الخطاب العدائي المتكرر بحق المكسيك والصادر من البيت الأبيض. فاتفاقية التبادل التجاري الحرّ لأميركا الشمالية (نافتا) تخضع للتوّ لمفاوضات بين كل من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، والسؤال برسم واشنطن هو ما جدوى إنتاج خصوم شعبويين في المكسيك بما يرفع من صعوبتها؟

هي خطوات تأتي لتنضم إلى خروج الولايات المتحدة من مفاوضات التبادل التجاري الحر عبر المحيط الهادئ، واتفاقية باريس للمناخ، واعتراض على عدم تسديد دول حلف شمال الأطلسي لمتوجباتها (مع إبهام في طرح طبيعة التقصير)، والتشديد على أن أي دور لاحق للولايات المتحدة في الشرق الأوسط رهن التمويل من أطراف أخرى في المنطقة.

حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها لا يحظون مع هذا الرئيس بما هو متوقع ومعتاد من الدعم المادي والتقدير المعنوي، بل هو يتعامل معهم بما هو أقرب إلى المنطق التعاقدي وصولاً لأن يتباهى أمام جمهوره، بحضورهم، بمقادير الأموال التي حصّلها منهم. أما خصومه، فحظوظهم أوفر. فكم يشقّ استخراج النقد منه إزاء روسيا، بل هي تستمر بالعبث من دون رادع بالفضاء المعلوماتي للتأثير في الانتخابات، ولا تلقى من ترامب الإدانة أو الجدية في الملاحقة. أما الصين، فترامب، ما بين التهويل بخطوات اقتصادية صارمة، والسرور بما يصدر عنها من إطراء له، قد أبقاها ضمن دائرة الترقب، فيما تتواصل معها المفاوضات لتجنب حرب تجارية قاصمة، على رغم أن الولايات المتحدة أضعفت يدها باستعداء حلفائها واستبعادهم، إذ هم يشتكون من تجاوز الصين لحقوق الملكية الفكرية لديهم كما واشنطن تشتكي.

لكن، وكما يشدد المؤيدون لترامب، فإن الاقتصاد الأميركي يعيش أجمل أيامه، النمو يتصاعد والبطالة تتراجع، بل إن عمالة الفئات المغبونة تاريخياً، مثل الأفارقة الأميركيين والهيسبانيك والنساء في أفضل أحوالها. وهذا، بنظرهم، الدليل البيّن على أن أفعاله دليل دهاء قاطع، وإن كانت أطواره خارجة عن المألوف.

يكفي استعراض الرسوم البيانية للنمو والبطالة والعمالة على مدى العقدين الماضيين لتتكشف حقيقة أن ما تشهده الولايات المتحدة اليوم ليس متزامناً مع انتخاب ترامب، بل هو استمرار صريح لتوجهات تعود إلى قرابة عقد كامل، ونتيجة لخطوات خلافية بعيدة الأمد هادفة إلى تفادي الانهيار وتصويب مسار الاقتصاد، جرى إقرارها وتنفيذها في نهاية عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش وبداية عهد الرئيس السابق باراك أوباما. من دون شك، ترامب أقدم على خطوات من صلب التصور المحافظ القديم، مثل الخفض الضريبي وتقويض برنامج الضمان الصحي، وكذلك الرسوم على الواردات، بما يثبت منحى الحمائية المتجددة والمستدعية لشبح الحرب التجارية تحت عنوان تصحيح الاختلال بميزان التبادل. غير أن تأثير هذه، ما تحقق منها وما هو في طور التحقق، لن يكون آنياً. فلا يمكن أن يبنى زعم الدهاء على أحوال اليوم.

وكذلك حال الإنجاز المفترض المتمثل بإنهاء الوضع المتأزم في شبه الجزيرة الكورية، والذي دفع بعض المؤيدين لترامب إلى المطالبة بأن ينال مقابلها جائزة نوبل للسلام، والتي كان قد حصل عليها سلفه أوباما لمجرد الكلام. وبالفعل، في حال استمرت اللجنة المولجة باختيار الفائز بهذه الجائزة مع اعتماد المعايير التي تم تنصيب أوباما على أساسها، أي المكافأة على أساس الوعد والاحتمال، فترامب ربما مستحق لهذه الجائزة. أما الواقع العاقل، فهو أن تسوية الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية ليست أمراً محسوماً، بل لا يمكن القطع عند هذا الحد بأن اللقاء بين رئيس القوة العظمى الأولى في العالم وحاكم ما اعتبرته وثيقة الأمن الوطني للولايات المتحدة دولة مارقة، إذ يجعل منهما ندّين، لا يتعدى المناورة من جانب بيونغ يانغ للتخفيف من وطأة العقوبات المفروضة عليها، على أن يبقى تعريف نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة موضوعاً للبحث والمتابعة الطويلة الأمد.

كافة الخطوات التي أقدم عليها دونالد ترامب لها من يؤيدها ويدعو إليها في صفوف التوجهات المحافظة في الولايات المتحدة، بما في ذلك تصويب العلاقة مع الحلفاء بما يعزز مصالح الولايات المتحدة، والتخلي عن الالتزامات الدولية لمصلحة التركيز على الشأن الداخلي. والجديد في ما يقدم عليه ترامب ليس فقط في أسلوبه الاستفزازي ومفاجآته الجوّالة، بل تحديداً بالانهيال على كافة هذه الملفات من دون برمجة زمانية ومن دون اعتبار لتضاربها. والنتيجة ليست إظهار لدهاء يعتز به مؤيدوه، بل فوضى، ربما يراد لها أن تكون «خلّاقة»، لكنها تشتيت لطاقات الولايات المتحدة وتبديد لما تبقّى من سمعتها فحسب.
نقلا عن الحياة اللندنية