المحامي إبراهيم شعبان - النجاح الإخباري - دماء عزيزة وغزيرة سكبت على ثرى قطاع غزة في الأسابيع الماضية، ومثلها سالت في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، من أجل إنهاء احتلال كولونيالي طويل الأجل استمر لأكثر من خمسة عقود زمنية دون إطلال فجر جديد بل زادت المحتل الإسرائيلي شراسة وصلفا. وكأن الإيغال في الدم الفلسطيني غدا شهادة حسن سلوك للتصرف الإسرائيلي الزاعم للأخلاقية والمدنية والحضارية للعسكرية الإسرائيلية.

شهدت المناطق الفلسطينية طيلة الخمسين عاما الأخيرة، انتفاضات وثورات وحوادث سلمية ومقاومة مسلحة ومقاومة لاعنفية متقطعة، للخلاص من هذا الإحتلال الإستيطاني القابع فوق الأرض الفلسطينية. وما انفك الكثير من الفلسطينيين يقاومون هذا المحتل الغاصب يوميا كل بطريقته، ولكنه يتمادى في غيّه، ويسلب الأرض والماء ووسائل الحياة. وقد دفع الكثير من الفلسطينيين من حياتهم وحريتهم ثمنا لهذه المقاومة المستمرة.

وقبل عام 1948 ضحى الشعب الفلسطيني بكل ما يملك وبذل النفس والنفيس، وغدا جزء منه مهاجرا في ربوع العالم لكنه لم يفرط بحق العودة ولا بحقه في الثرى الفلسطيني.

لقرن أو أكثر لم يلبث الشعب الفلسطيني أن يدخل في محنة حتى يخرج إلى محنة وأزمة جديدتين، وهو يبحث ويناضل عن وطنه المستباح. وفي مسيرته يسمع حلو الكلام وأرقّه، ويبني الآمال الزائفة حول قرب نيل حقوقه الثابتة ويحقق أحلامه المشروعة. لكنه لا يلبث ان يعود بخفي حنين.

صحيح أن مؤامرات حيكت لإبعاد القضية الفلسطينية عن المسرح الدولي والأممي. وصحيح ان الإخوة والأشقاء تراخوا وتهاونوا في مساندة القضية الفلسطينية ولا نريد القول أنهم تآمروا في زمن استقلت فيها أقاليم العالم المستعمرة وتحررت فيه شعوب العالم المضطهدة.

صحيح أن الفلسطينيين لجئوا إلى أساليب المقاومة الشعبية المسلحة والهبات الجماهيرية والإنتفاضات الشعبية الجارفة وإلى الإضرابات المتفرقة والمقاطعة المتناثرة، لكنها كلها في وجه عدو شرس لم تجد نفعا وبقي سيل الدماء الفلسطينية نازفا. والمشكلة الآن ان الوضع العربي والعالمي لا ينبىء خيرا بل هناك تراجع على كل الساحات. فسوريا تلملم جراحاتها، ومصر تطعم فقراءها، ومشيخات الخليج ملهية في تمويل ترامب وعصابته، وروسيا الإتحادية لا تقوى على هذه المهمة، والصين والإتحاد الأوروبي أعجز من القيام بدور فعال لحل القضية الفلسطينية بمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية. والأخيرة مشغولة في كيفية استلاب المليارات من حسابات الدول القبلية العشائرية.

من هنا تبدو المقاومة المدنية أو ما يسمى بالمقاومة السلبية أو الدفاع السلبي أو اللا عنف أو الدفاع المدني، أمرا في غاية الأهمية. ذلك أن الفلسطينيين يجب أن يستعملوا كل أدوات المقاومة لتحرير وطنهم السليب وإقامة دولتهم الفلسطينية العتيدة وممارسة حقوقهم الإنسانية المدنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية كبقية خلق الله.

المقاومة المدنية أحد الأسلحة القليلة الباقية للشعب المقهور المحتل ولا يقبل المحتل أن ينهي احتلاله البغيض. المقاومة المدنية ترى في النضال أمرا أساسيا وتشن نضالها ولكن دونما عنف، فالعمل اللاعنيف ليس محاولة لتجنب الصراع أو تجاهله، إنه رد فعل طبيعي لكيفية العمل بفاعلية في السياسة وبخاصة كيفية استخدام القوة بصورة فاعلة. إنها ليست اللا عمل بل العمل بطرق أخرى وهي لا تعني الإستسلام أو الخضوع للمحتل باي حال من الأحوال. ولعل من أبرز الأمثلة على المقاومة المدنية نضال غاندي في الهند ضد الإستعمار البريطاني.

تقوم المقاومة المدنية على عدم استعمال العنف كنهج للمقاومة في ظل غياب أدوات أخرى للمقاومة. المقاومة المدنية ليست نهجا سلبيا بل فعل إيجابي على الأرض بحيث تزلزل الأرض التي يقف عليها المحتل. المقاومة المدنية تستخدم الوعي والثقافة للشعب الفلسطيني حتى يتجنب الوقوع ضحية للممارسات الوحشية الإسرائيلية بل تفويت الفرصة على المحتل الإسرائيلي لا ستخدام أساليب القوة الطاغية في وجه شعب أعزل.

المقاومة المدنية تتجاوز الإضرابات والمقاطعة والمظاهرات والإحتجاجات والتجمعات والإعتصامات والإستعراضات وسد الطرق في لحظة ما، أو إغراق الناس الشوارع في لحظة ما أو فترة زمنية محددة، وعدم الطاعة لأوامر المحتل والمقاطعة الإقتصادية ،وعدم دفع الضرائب وإقامة حكومة موازية والإعلام الواسع الموثق الموضح الشارح والتوعية واللافتات وإعلان الحداد والخطب العامة ووسائل التواصل الإجتماعي، وكسب المؤيدين وإقلال المعارضين سواء من دول أو منظمات دولية ،أو أشخاص حائزين جوائز عالمية والحصول على تصريحات مؤيدة من هذه الشخصيات والمنظمات ونشر المنشورات وبيان الحقائق ورفع الشعارات، ورسم الكاريترات ورفع الأعلام وارتداء رموز وطنية وصلوات وعبادات هادفة ورمزية. بل دعوة قوات الإحتلال لرفض تنفيذ أوامر رؤسائهم لأنهم يواجهون شعبا أعزلا. ولست هنا في صدد تعداد وسائل المقاومة المدنية فهي كثيرة والعقل الفلسطيني خلاق.

المقاومة المدنية حتى تنجح تحتاج إلى تخطيط وتنظيم وتبصر وضبط وربط وتوقيت دقيق. والأهم أن يثق الشعب في قدراته في تحقيق امانيه المشروعة، وانخراط فئاته كافة بحيث يسود الإنسجام والتناغم بين أفراده ولجانه وأطره ورص الصفوف ، وان يتمتع الشعب بنفس طويل وأنه منتصر لا محالة وأن لا يتسرب اليأس إلى قلوب أبنائه. فالمقاومة المدنية تحتاج إلى نبذ الخلافات العائلية، وتصفية الخلافات إن وجدت وتقديم الإغاثة الطبية بسرعة وبالمجان وتقديم المعونة العاجلة إلى ألأسر المنكوبة. المقاومة المدنية تحتاج إلى تأييد خارجي من الحكومات والشعوب المؤيدة . وفي مجال السياسة الحارجية ان تتبع سياسة مرنة ونبذ المفهوم الضيق لكسب المزيد من الأصدقاء والمؤيدين. ولا بأس في توريط دولة الإحتلال في نزاعات أو مجابهتها لأحلاف أو مناورات ضاغطة وإبراز الطابع المدني للنضال الفلسطيني باستمرار.

ولا يعتقدنّ أحد أنه بمجرد قيام أفعال المقاومة المدنية ان الإحتلال سيسلم ويقبل بالأمر الواقع، بل سيزداد شراسة وقمعا ويمارس القمع المنظم من قوات الأمن وأذرعها المتعددة. وسيلجأ لكل الوسائل وهو مقتدر أن يزرع الأخطار ويقيمها في ثنايا الشعب المقاوم. ولعل من هذه الأخطار الواضحة تفريق الشعب الفلسطيني المحتل إلى فئات وملل وطوائف طبقا لدين أو رأي سياسي أو جنس أو أصل اجتماعي أو ملكية أو طبقية والعملاء. ببساطة هو يهدف إلى ضرب الوحدة الوطنية والنفاذ إلى الشعب الفلسطيني كفئات غير متباعدة ومنفصلة ومفتتة وغير متحدة. ومن الأهمية بمكان إبقاء القيادة الموحدة سرية وبعيدة عن متناول يد الإحتلال وخلق بدائل لها في ظل اكتشافها والإبتعاد عن المركزية الشديدة.

إن موقف القانون الدولي بشقيه العرفي والإتفاقي يؤيد مقاومة المحتل بكل الطرق المشروعة التي تتفق مع قواعده. ويقينا إذا قام الشعب الفلسطيني بتخطي الصعاب المحيطة بالمقاومة المدنية فإن وصوله لهدفه المنشود يصبح واضحا وأكيدا وقصيرا. لكن على الشعب الفلسطيني أن يتشبث بوحدته الوطنية مهما كان الثمن. فبدونها سيلج المحتل إلى التهام جميع الفئات الوطنية مهما ادعت من قوة وبصيرة وحكمة. وصدق الشاعر حينما قال تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا.