يوسف قطينة - النجاح الإخباري - قامت بلدية القدس يوم الاثنين الماضي بوضع لافتات في شوارع القدس تشير الى موضع السفارة الأميركية في المدينة المقدسة، باللغات الثلاث: العربية والعبرية والانجليزية، وذلك تمهيداً لـ «الاحتفال» بافتتاح السفارة يوم الاثنين القادم، الرابع عشر من شهر أيار الجاري، بالتزامن مع «احتفال» اسرائيل بالذكرى السبعين لإقامتها على أنقاض وطن الشعب الفلسطيني، على أرض فلسطين التاريخية، الذي يتزامن ايضاً مع إحياء الشعب الفلسطيني ذكرى النكبة.

وفي هذا السياق نشر البيت الأبيض أسماء الوفد الأميركي الذي سيشارك في «حفل» افتتاح السفارة، ولن يضم الوفد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولا وزير خارجيته مايك بومبيو، بل سيضم: جون سوليفان نائب وزير الخارجية، وستيفن منوشن وزير الخزانة، وايفانكا ترامب ابنة الرئيس الأميركي، وزوجها جاريد كوشنر. وقد احتفت اسرائيل احتفاء واسعاً بقرار نقل الولايات المتحدة سفارتها من تل أبيب الى القدس، كترجمة لقرار ترامب الاعتراف بالقدس «عاصمة» لإسرائيل، تنفيذاً لتعهده خلال حملته الرئاسية، كذلك تنفيذاً لقرار الكونغرس الأميركي سنة ١٩٩٥ القاضي بنقل السفارة من تل أبيب الى القدس، وهو القرار الذي لم يجرؤ أي رئيس اميركي قبل ترامب على تنفيذه، تخوفاً من ردود الفعل العربية والاسلامية، ولكن ترامب اتخذ هذا القرار، ليس عن شجاعة، ولكن لأنه رأى العالم العربي وكذلك العالم الاسلامي في أسفل سافلين، تمزقه الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية والاقتتال العرقي، خاصة بعد تدمير العراق واحتلاله سنة ٢٠٠٣ وتدمير سورية وإنهاك جيشها خلال سبع سنوات عجاف من الحرب الأهلية والعدوان الخارجي.

كذلك جاء قرار ترامب هذا، بعد أن رأى معظم الدول العربية، لم تعد ترى في اسرائيل عدواً، بل أن بعضها أصبح يراها حليفاً في وجه «العدو المشترك» ايران، وعقب أن رأى أن مليارات النفط العربي غدت تنهال على الخزينة الأميركية وكذا شركات الأسلحة الأميركية، وعلى مشاريع استثمارية أميركية، سعياً لنيل رضاه، وابتغاء كسب مودته وحرصاً على تأييده لسياساتها الداخلية والخارجية، والصمت عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان في بلدانها.

وكما توقع ترامب، فإن رد الفعل العربي والاسلامي على قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارته الى المدينة المقدسة، كان باهتاً وهزيلاً، حتى لم يكن بلغة الشجب والادانة والاستنكار التي اعتاد القادة العربية صوغها في بياناتهم الممجوجة، اذ لم تجرؤ أي دولة عربية أو اسلامية على سحب سفيرها من واشنطن ، أو سحب ودائعها المالية من الولايات المتحدة، أو مقاطعة البضائع الأميركية، أو التوقف عن شراء الأسلحة الأميركية، بل كان العكس هو الصحيح، إذ أن تلك الدول كافأت ترامب بزيادة مشترياتها من الأسلحة، ليس للدفاع عن الدول العربية، ولصد الاعتداءات الاسرائيلية، بل لقتل العرب وتمويل الجماعات الارهابية التكفيرية، التي تعيث قتلاً وتدميراً ورعباً في العديد من الدول العربية كسورية والعراق وليبيا والصومال واليمن.

والشارع العربي، ليست ردة فعله على قرار ترامب بأحسن حالاً من ردة فعل القادة العرب، بل هو في غيبوبة تامة، يعيش أسوأ عهوده: «من فقر مدقع وبطالة بلغت ارقاماً فلكية، وملاحقة من الأجهزة الأمنية»، حيث التظاهرات والاحتجاجات محظورة تماماً، ومن يتجرأ ويخرج متظاهراً او محتجاً يختفي قسرياً وراء الشمس، ولا يعد أحد يعرف مكانه.

بل أصبحت القدس عبئاً على العديد من الدول العربية والإسلامية، حتى إن بعضها أصبح يعرضها في أسواق النخاسة ابتغاء مرضاة ساكن البيت الأبيض، ويدعو الشعب الفلسطيني الى نسيانها، والاكتفاء

بأبوديس أو رام الله عاصمة لهم، وبدلاً من أن يرصدوا ملياراً واحداً من المليارات التي يرصدونها لحروبهم الأهلية، أو لشراء يخوت فاخرة، أو قصور باذخة في الغرب، او لوحات فنية أثرية، لإنقاذ القدس وعقاراتها والمحافظة على هويتها العربية والإسلامية، فإنهم يعرضون على الفلسطينيين مليارات للتخلي عنها والقبول بسواها عاصمة لهم!!

بل بلغ بعضهم الحد الى المسارعة في التطبيع مع اسرائيل وإرسال وفود رياضية ، كما جرى الأسبوع الماضي في سباق الدراجات في القدس، الى المدينة المقدسة في اعتراف صريح بضم اسرائيل للقدس.

وفي الوقت الذي تنفق فيه اسرائيل المليارات لتهويد القدس، وشراء عقارات فيها، خاصة داخل الأسوار، ولا سيما في المناطق المحيطة بالمسجد الاقصى المبارك، من مقدسيين فاقدي النخوة وضعفاء النفوس، وعديمي الوطنية، وفي الوقت الذي يتبرع فيه أثرياء اليهود في العالم لدعم المؤسسات اليهودية في المدينة المقدسة ، وتمويل شراء المستوطنين لعقارات مقدسية، فإن الدول العربية والإسلامية الثرية لا تنفق دولاراً واحداً لإنقاذ تلك العقارات، او لإقامة مشاريع سكنية تحل أزمة الإسكان الخانقة التي يعيشها المقدسيون، أو لحل الأزمة الخانقة التي يعاني منها مستشفيا المقاصد والمطلع، بينما حين تدخل إحدى المستشفيات الاسرائيلية، ترى اللوائح تزين جدرانها بأسماء المتبرعين اليهود الذين تبرعوا بالملايين لتلك المستشفيات.

لقد صرف العرب والمسلمون اليوم أنظارهم عن القدس وأشاحوا بوجوههم عنها، وتركوها لإسرائيل تمعن فيها تهويداً وطمساً لمعالمها العربية والإسلامية، وجعلوا مصيرها بيد رئيس أميركي اخرق، ورئيس وزراء اسرائيلي متغطرس، ولكن كل ذلك لن يغير من إسلامية القدس وعروبتها ، لأن اسلاميتها جاءت بقرار رباني قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، وحتى قبل ان تطأ أقدام جيوش الفتح الإسلامي أرضها وأرض فلسطين، وذلك في آية استهل بها المولى -عز وعلا- سورة الإسراء ، تقول : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير".

وهذا القرار الرباني لا يملك ترامب ولا نتنياهو ولا المتخاذلون من العرب والمسلمين تغييره او شطبه أو التعقيب عليه ، ذلك ألا معقب لحكم الله ولا معطل لقراره" وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ".

وقد مرت القدس في فترة الحروب الصليبية بفترة أسوأ من فترتنا هذه ، بل إن الملك العادل تخلى عن القدس وسلمها للصليبيين مقابل دعمه للبقاء في حكمه، ولكن عادت القدس بعد ذلك إسلامية عربية، وستعود الى سيرتها الأولى، كما قررها الله - عز وجل- عاجلاً أو آجلاً، تلك سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا، ولن تجد لسنته تحويلا.

القدس الفلسطينية